في زمان ومكان آخرين، قد يكون قرار حملة ترامب-فانس التركيز على الادعاء الكاذب بأن الهايتيين في سبرينغفيلد بولاية أوهايو يسرقون الحيوانات الأليفة ويأكلونها أمراً مضحكاً نوعاً ما. ولكن بالنظر إلى وضعنا الحالي كأمّة، فإن الأمر ليس بمزحة، لأن المدينة اضطرت إلى إغلاق المدارس والمباني العامة في مواجهة التهديدات الأخيرة بوجود قنابل.
وبالنظر إلى هذا الواقع، يبدو أن من قلة الذوق تقريباً الحديث عن العواقب الاقتصادية لهذا النوع من الخطابات. غير أن هذه العواقب حقيقية، وسلبية إلى حد كبير -- وخاصة بالنسبة لبلديات مثل سبرينغفيلد التي تمكنت من وقف الانخفاض السكاني فيها وتعزيز نمو الوظائف عبر احتضان الهجرة. وهنا، يمكننا أن نرى كيف يمكن للكراهية أن تدمِّر فرص التجديد الاقتصادي في أجزاء من الداخل الأميركي.
لقد سبق لي أن كتبتُ عن مشكلة المناطق التي همّشها اقتصاد القرن الحادي والعشرين، وهي مشكلة نجدها في العديد من الدول الغنية. فقد أدى التراجع في أجزاء من ألمانيا الشرقية السابقة إلى تغذية التطرف اليميني بطرق تشبه صعود الترامبية في بعض الأجزاء المحرومة اقتصادياً من بلدنا.
غير أن هناك بعض المدن الصغيرة التي تمكنت من مقاومة هذا الاتجاه، وفي حالات عديدة، كان للمهاجرين دور محوري في إعادة إحيائها. ومن الأمثلة على ذلك مدينة سبرينغفيلد التي تضم مجتمعاً من المهاجرين الهايتيين (القانونيين!). ومن الأمثلة الأخرى بلدتا يوتيكا، بولاية نيويورك، التي ازدهرت بفضل اللاجئين من البوسنة وميانمار، وسبرينجديل، بولاية أركانسو، التي جذبت أشخاصاً من أماكن مختلفة مثل جزر مارشال، وغيرها الكثير.
هذه المناطق المحلية المشهورة بالهجرة تميل إلى أعراق معينة للسبب نفسه الذي جعل العديد من المهاجرين النرويجيين يستقرون في ولاية مينيسوتا: إن عدداً قليلاً من المهاجرين الأوائل يرسلون رسالة إلى أشخاص يعرفونهم، وفي نهاية المطاف، تتكون مجتمعات ذات كتلة حرجة تساعد في الحفاظ على بعض تقاليدهم الثقافية.
لماذا ينتقل المهاجرون إلى بعض المدن الصغيرة؟ جزئياً بسبب تكاليف السكن التي كانت، حتى عهد قريب على الأقل، منخفضة نسبياً (حيث تميل إلى أن تكون كذلك في المدن المتدهورة اقتصادياً). وفي بعض الحالات، ينتقلون إليها أيضاً للاستفادة من الوظائف التي يُحجم بعض الأميركيين المولودين في أميركا عن شغلها لأي سبب من الأسباب. وفي مدينة سبرينغديل، موطن شركة «تايسون فودز»، غالباً ما تكون هذه الوظائف في مصانع الدواجن. وفي سبرينغفيلد، التي شهدت «ازدهاراً في وظائف التصنيع والمستودعات» حسبما أفادت صحيفة «نيويورك تايمز»، يشير المشغِّلون إلى أن بعض الشباب المولودين في أميركا يتجنبون «العمل في الأعمال الروتينية والمملة القائمة على تكرار العمليات».
ولكن، هل يأخذ العمالُ المهاجرون الوظائف من الأميركيين المولودين في الولايات المتحدة؟ دونالد ترامب وجي دي فانس دأبا على تكرار هذا الادعاء. صحيح أن القوى العاملة المولودة في البلاد انخفضت على المستوى الوطني منذ 2019. ولكن في الصورة الأكبر نجد أن تفسير ذلك لا يكمن في حقيقة أن المهاجرين يأخذون الوظائف، وإنما في حقيقة أن مواليد جيل طفرة المواليد في الولايات المتحدة أخذوا يبلغون سن التقاعد. ثم إن احتمال عمل الأميركيين الذين ولدوا في أميركا، والذين هم في ذروة سنوات عملهم أكبر من احتمال عملهم خلال فترة ما قبل الجائحة أو أي وقت خلال إدارة ترامب.
هذا هو الوضع على المستوى الكلي. أما على مستوى بعض المجتمعات التي اجتذبت أعداداً كبيرةً من العمال المهاجرين، فالصورة أكثر وضوحاً. فمن خلال مساهمتهم في تعزيز النمو العام في اقتصاد المدينة، فإن المهاجرين غالباً ما يزيدون من فرص العمل بين السكان المولودين في أميركا. لماذا؟ لأنهم ينفقون معظم ما يكسبونه من أموال في المكان الذي يعيشون ويعملون فيه، مما يساعد على خلق فرص عمل محلية.
ولكن، هل يمكن أن يطرح التدفقُ السريع للمهاجرين مشاكل؟ بكل تأكيد. ذلك أنه يمكنه أن يؤدي إلى ارتفاع تكاليف السكن، مؤقتاً على الأقل، على الرغم من أن أسعار المساكن تمثِّل مشكلةً عبر أميركا، وأن الارتفاع في سبرينغفيلد، التي ما زالت لديها مساكن رخيصة بالمعايير الوطنية، صار منذ الجائحة مماثلاً للارتفاع المسجل في البلاد بشكل عام. كما أن الارتفاع المفاجئ في عدد السكان المهاجرين يمكن أن يؤدي إلى ضغط على الخدمات المحلية مثل المدارس والمستشفيات.
غير أن أنظمة المدارس والمستشفيات يمكن توسيعها، ولاسيما عندما تعزز الهجرةُ إيرادات الحكومة المحلية. والأكيد أن مواجهة تحديات البنية التحتية في سبرينغفيلد أفضل من مواجهة تحديات المناطق التي تعرف تراجعاً في عدد السكان وحيث يؤدي إغلاق المستشفيات والمدارس إلى خلق صحارى للرعاية الصحية والتعليم.
وعموماً، فإن انتقال المهاجرين إلى بعض المدن الصغيرة كان مفيداً جداً، وهو أحد أفضل الآمال التي لدى هذه المدن لتحقيق انتعاش اقتصادي. غير أن هذا الأمل سيختفي إذا أخاف مناخ الكراهية المهاجرين ودفعهم للرحيل.
لقد سبق لي أن ذكرتُ ألمانيا، حيث يخشى بعض قادة الأعمال أن يؤدي صعود التطرف اليميني إلى «كارثة اقتصادية» في شرق البلاد، الذي يحتاج إلى الهجرة لدعم اقتصاده. فهل يمكن أن يحدث الشيء نفسه في أميركا؟ أجل.
والواقع أن الحديث عن هذه الحلقة الرهيبة في حياتنا السياسية لا يكتمل من دون التشديد على أن الادعاءات الكاذبة بأننا نواجه موجة جرائم يرتكبها المهاجرون والادعاءات الغريبة حول أكل المهاجرين للحيوانات الأليفة يمكن أن تؤدي بسهولة إلى تعميق المشاكل الاقتصادية في أجزاء من الداخل الأميركي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»