تعرضتُ في مقالة سابقة للفرص التي استجدت في العديد من المجالات، بما فيها صناعة الطاقة التي وفرت إمكانياتٍ مستجدةً لكافة الدول بفضل التقدم التكنولوجي الذي تحقق في العقود القليلة الماضية. وهنا يمكن تناول الشق الخاص بالطاقة والتغيرات التي لازمته والناجمة عن تغير موازين القوى الاقتصادية العالمية.
بعد أن تزعمت الدول المتقدمة لسنوات الدعوةَ إلى التخلي عن مصادر الطاقة الأحفورية وإعلانها عن تقديم دعم واعتمادات كبيرة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، حيث جارتها الكثير من دول العالم الأخرى في هذا الاتجاه، بما فيها البلدان المنتجة للنفط، يلاحظ في الآونة الأخيرة خفوت حدة هذا التوجه في الغرب، واتخاذ إجراءات للحد من الدعم المقدم لمصادر الطاقة المتجددة، وتقليل الانتقادات الموجه للطاقة التقليدية وتخفيف القيود على إنتاجها، حيث أعلنت مرشحة الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأميركية كامالا هاريس أنها «لم تعد تدعم فرض قيود على التكسير الهيدروليكي الخاص بإنتاج النفط الصخري»، وذلك رغم مواقف حزبها المعارضة لهذه الصناعة، وهي مواقف حدّت كثيراً من الاستثمارات النفطية، وبالأخص في مجال إنتاج النفط الصخري.
أما في ألمانيا، فقد خفضت الحكومةُ هناك الدعمَ المقدمَ لإنتاج الطاقة المتجددة، وذلك بعد أن تراجعت كثيراً قدرةُ مصانعها على منافسة المنتجات الأجنبية، وبالأخص الصينية، كمنتجات ألواح الطاقة الشمسية التي هيمنت عليها ألمانيا لسنوات عديدة، حيث حذّرت الشركاتُ الأوروبيةُ المصنِّعةُ للألواح الكهربائية المفوضيةَ الأوروبيةَ من أنها لا تستطيع المنافسةَ مع المنتجين الصينيين الأرخص أسعاراً.
ولهذه التغيرات أسباب فرضتها عوامل استراتيجية وتجارية تتعلق بالتحكم في مصادر الطاقة، وما يترتب عليها من تداعيات اقتصادية وسياسية كثيرة، فتاريخياً احتكرت الدولُ المتقدمةُ مكامنَ إنتاج الطاقة الأحفورية في العالم بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسمت مراكز النفوذ فيما بينها، كما احتكرت التكنولوجيا الخاصة بهذه الصناعة الحيوية والتي كانت بأمس الحاجة إليها، وبالأخص لإعادة بناء اقتصادياتها بعد الدمار الكبير الذي لحق بها جراء الحرب العالمية الثانية، حيث لعب النفط الرخيص المستورد من الدول النامية دوراً محورياً في إعادة بناء الاقتصادات الأوروبية.
واعتباراً مِن العقد الثاني من القرن الحالي أخذ المشهدُ العام لصناعة الطاقة في التغير بصورة سريعة، بفضل التقدم التكنولوجي الذي تحقق والذي كسر الاحتكار الغربي، سواء التحكم في مصادر الطاقة أو التقنيات الخاصة بها، وهو تحول مهم خلق ما يمكن أن نسميه «تعدد أقطاب الطاقة»، فدخلت دول فعالة من الشرق إلى جانب الدول الغربية.
ويبدو المشهد العام الآن مائلاً لصالح الشرق لأسباب عديدة، وهو ما جعل الطرفَ الآخرَ يعيد النظرَ في توجهه القوي نحو تطوير مصادر الطاقة المتجددة والتدرج في ذلك قدر الإمكان. فالشرق يملك أفضليات عديدة تتيح له المنافسةَ القوية في هذا المجال، فأولاً تم تطوير تكنولوجيا ووسائل إنتاج الطاقة النظيفة في الصين ودول مجلس التعاون الخليجي والهند وغيرها، بحيث لم يعد الغربُ مهيمناً بصورة مطلقة على هذه التكنولوجيا، كما هو الحال مع صناعة النفط، وذلك بدليل استثمارات دول الشرق ومساهمتها في تطوير إنتاج الطاقة المتجددة في الكثير من دول العالم، بما فيها المتقدمة، حيث تمكن الإشارة هنا إلى تنفيذ دولة الإمارات العديدَ من المشاريع، كتلك التي نفذت في إسبانيا والمملكة المتحدة. كما تنفذ المملكة العربية السعودية مشاريعَ مماثلة في العديد من الدول، وبالأخص بلدان آسيا الوسطى. أما الصين فإن جهودها في هذا المجال، وخصوصاً في القارة الأفريقية، متعددة ومتنامية.
وإلى جانب ذلك، فإن الثروات الطبيعية التي يعتمد عليها تطوير الطاقة المتجددة، كالنحاس والليثيوم والألمنيوم والبولي سيليكون.. إلخ، توجد أساساً في الدول النامية والناشئة والتي أصبحت تتحكم في ثرواتها الطبيعية، وذلك على العكس من الوضع السابق الخاص بهيمنة الغرب على منابع النفط والغاز والتي تحررت بدورها لتصبح تحت سيطرة الدول المنتجة.
وهذه التغيرات - باختصار- قلبت موازين قوى الطاقة، لا سيما أن إنتاجها في الشرق يعتبر أقل تكلفة، وبالتالي فإن دوله المنتجة أكثر قدرةً على المنافسة في الأسواق الدولية، وهو ما حدا ببعض الدول الغربية إلى اتخاذ إجراءات حماية لم تساعدها كثيراً على احتواء المنتجات الشرقية، وذلك بسبب تغير موازين القوى الذي يتجذر مع مرور الوقت.
*خبير ومستشار اقتصادي