يمكن القول إن 2024 «عام الانتخابات» بامتياز عبر العالم، إذ جرت وتجرى استحقاقات بالغة الأهمية في الهند والاتحاد الأوروبي والمكسيك وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة والعديد من الأماكن الأخرى. غير أن هناك انتخابات سيكون لها تأثير كبير على 70% من مساحة العالم لم ينتبه إليها الكثيرون: ونقصد بذلك التصويت الأسبوع الماضي حول من سيشغل منصب أمين عام الهيئة الدولية لقاع البحار، التي تضم في عضويتها 169 دولة.
الهيئة الدولية لقاع البحار، التي تُعد جهازاً تابعاً للأمم المتحدة، أُنشئت بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في عام 1982. ويقع مقرالهيئة في جامايكا، وتتمتع بسلطة على جميع امتيازات التعدين في قاع البحار العميقة عبر العالم، مع تفويض لحماية ثروات قاع البحار الدولية (التي تمثّل أكثر من نصف إجمالي قاع المحيطات). والهيئة هي التي ستقرر السماح بالتعدين في المناطق التي تحتوي على معادن المنغنيز والكوبالت والنحاس والنيكل من عدمه.
وكان التعدين في قاع البحار العميقة توقف لعدد من الأسباب البيئية والاقتصادية، بالإضافة إلى شرط تقاسم التكنولوجيا ذات الصلة مع المجتمع العالمي. غير أن تكنولوجيا استخراج المعادن من قاع البحار العميقة أخذت في التحسن الآن، في حين أخذت الموارد الأرضية في النضوب وأسعار السلع الأساسية في الارتفاع.
ولهذا، اكتسى انتخاب الأمين العام الجديد للهيئة أهمية كبيرة. وتتمتع الفائزة بالمنصب، وهي عالمة المحيطات البرازيلية ليتيسيا كارفالهو، بتفويض قوي إذ حصلت على 79 صوتاً مقابل 34. وستكون كارفالهو، التي تعمل حالياً مسؤولة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة في نيروبي، أولَ برازيلية وأولَ عالمة وأولَ امرأة تقود المنظمة.
سلفها، مايكل لودج، ضغط بقوة من أجل وضع مجموعة من اللوائح التنظيمية للتعدين في قاع البحار العميق، وهو ما يدعمه القطاع. غير أن كارفالهو، التي ستتولى منصبها في الأول من يناير المقبل، قالت إنه من غير المرجح أن تفي الهيئة بالموعد الذي حددته لنفسها في يوليو 2025 من أجل إخراج تلك القواعد.
وهو أمر مؤسف. ذلك أنه مع ارتفاع شعبية السيارات الكهربائية وازدياد الحاجة إلى البطاريات، سيزداد استخراج هذه المعادن من قاع البحر العميق ويتسارع. والجدير بالذكر هنا أن الهيئة الدولية لقاع البحار أصدرت أكثر من 30 عقداً لشركات خاصة وحكومية للبحث عن المعادن عبر 500 ألف ميل مربع من قاع البحار الدولية.
ويأتي انتخاب كارفالهو في لحظة معقدة. ذلك أن النتائج الجديدة وغير المتوقعة تشير إلى أن المعادن قد تنتج الأكسجين، وهو ما يعني ضرورة جمع مزيد من البيانات وإجراء مزيد من التحاليل البيئية. وفضلاً عن ذلك، فإن أقلية من الدول الأعضاء في الهيئة الدولية لقاع البحار (الولايات المتحدة ليست واحدة منها) دعت إلى وقف التعدين، دعوة قد تنضم إليها مزيد من الدول مستقبلا.
وتقع «المنطقة الساخنة» للتعدين وسط المحيط الهادي، بالقرب من دول جزرية صغيرة مثل كيريباتي وناورا وتونغا. وتعمل هذه الدول مع شركة كندية تدعى «ذا ميتلز كومبني» للشروع في التعدين -- رغم عدم وجود لوائح تنظيمية، وهو ما لن تنظر إليه بعين الرضا العديدُ من الدول الأعضاء في الهيئة، التي يرى بعضها أن استغلال قاع البحار هو استعمار القرن الحادي والعشرين. والجدير بالذكر هنا أن أحد المبادئ الموجهة لمعاهدة قانون البحار ينص على أن قاع البحار الدولي «تراثٌ مشترك للبشرية جمعاء».
غير أن بعض الوفود -- بما في ذلك الصين واليابان، اللتان يمثّل ناتجهما المحلي الإجمالي مجتمعين قرابة ربع الاقتصاد العالمي -- تدفع باتجاه المضي قدماً في ذلك. ومع أن الولايات المتحدة ليست عضواً في الهيئة، إلا أنها تؤيد التعدين بشكل عام دعماً للتصنيع. وتهتم العديد من الشركات الأوروبية والأسترالية والكندية بالمضي قدماً في التعدين لأسباب اقتصادية وجيوستراتيجية معاً.
وإلى جانب التقدم في مجال الروبوتات وتكنولوجيا النانو، سمح صعود الذكاءُ الاصطناعي، الذي يُستخدم للتنقيب عن قاع البحار العميقة واستكشافها، بالتعدين بكفاءة أكبر. والأكيد أن هذه التكنولوجيا ستزيد الضغط على التعدين في قاع البحار العميقة.
التداعيات الجيوسياسية كبيرة. ذلك أنه مع زيادة الطلب على المواد الأساسية، ستزداد الرغبة في إنشاء كيانات ترعاها الدولة أو تدعمها لضمان تدفق الإمدادات. كما سيكون هناك تنافس بين القوى الصناعية الكبرى على كسب ود الدول التي لديها مناطق اقتصادية خالصة كبيرة، تشكّل 200 ميل بحري بالقرب من الحقول الكبيرة للمعادن.
وفي هذا الصدد، ينبغي أن تكون الأولوية الاستراتيجية الرئيسية للولايات المتحدة هي المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. ولعل المثير للسخرية هنا هو أن الاعتراض على نظام التعدين في قاع البحار العميقة هو الذي جعل الولايات المتحدة تعارض المعاهدة في الثمانينيات. ورغم بعض المحاولات التي كادت تفضي إلى انضمام واشنطن إلى الهيئة على مدى العقود الماضية، إلا أن مجلس الشيوخ الأميركي لم يوافق عليها قط. غير أنها تحظى بدعم كبير جداً من قبل الاستراتيجيين البحريين الأميركيين – بمن فيهم كل الأدميرالات الذين أعرفهم -- وكذلك من القطاع في الولايات المتحدة.
وخلاصة القول إنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن يكون لها صوتٌ في المداولات حول قاع البحار العميقة -- وينبغي لها ذلك -- فعليها أن تصادق على المعاهدة، وهو ما سيتطلب دعماً من كلا الحزبين، وأن تحاول التأثير على العملية من الداخل. إذ ينبغي أن تكون الانتخابات الأخيرة التي شهدتها الهيئة بمثابة تحذير مفاده أن فرصة إحداث تأثير في السياسة المتعلقة بمحيطات العالم أخذت تبتعد عن الولايات المتحدة.
*ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»