في ظل الفرز المستمر لمراكز القوى جيوسياسياً، هناك فرز موازٍ على المستوى الاقتصادي يؤدي تدريجياً إلى إعادة ترتيب مراكز القوى اقتصادياً، كما يساهم في تعميق الأزمات الاقتصادية والتي سيترتب عليها نتائج اجتماعية وتغيرات في هيكلية العديد من المجتمعات، بما في ذلك توزيع الثروات والبنى المالية التي ربما لن تتمكن من التأقلم مع هذه المستجدات.
ومع أنه كانت هناك توقعات على نطاق واسع أشارت إلى إمكانية تكاتف مختلف الدول لتجاوز المحن التي ألمت بالعالم في السنوات الخمس الماضية، إلا أن ما حدث هو العكس تماماً، إذ اشتدت حدة المنافسة والصراعات الاقتصادية واتخذت إجراءات تجارية عقابية، أعقبتها إجراءات مضادة ساهمت جميعها في تدني معدلات النمو وبروز صعوبات في سلاسل التوريد وارتفاع في معدلات التضخم.
ويشكل التنافس الصيني الغربي ذروة هذه الصراعات، فمنذ خمس سنوات لم تتوقف الحمائية الغربية ضد السلع والمنتوجات الصينية، وبالأخص السيارات، والتي انتشرت في العالم مؤخراً، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وذلك على الرغم من نسب الرسوم والضرائب المرتفعة التي فرضت عليها. أما خارج العالم الغربي، فإن المنتجات الصينية، بما فيها المركبات، فقد انتشرت واكتسحت الأسواق بصورة لافتة للنظر بسبب أسعارها المتدنية وجودتها العالية المتمتعة بتقنيات متطورة.
وإلى جانب كل من الصين والدول الغربية، فإن هناك العديد من التأثيرات التي طالت اقتصادات الدول الأخرى، علماً بأن هذه التأثيرات أشد بين القطبين الكبيرين المتنافسين بسبب العديد من العوامل والالتزامات والحروب والصراعات التي اقحموا أنفسهم فيها.
وبالنظر لبعض البيانات التي تدعم هذا الاستنتاج يمكن الإشارة إلى معدلات النمو المتوقعة لهذا العام، والتي تبلغ وفق صندوق النقد الدولي 2.6% في الولايات المتحدة و0.9 في الاتحاد الأوروبي ونمو سالب بنسبة 0.9% في اليابان، مقابل نمو بنسبة 5% في الصين، ومعدل نمو في الهند بلغ 8.4%، مع ملاحظة ارتفاع كبير في حجم الديون الأميركية، والذي تجاوز لأول مرة 35 تريليون دولار في العام الجاري ليشكل 121.6% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تعتبر نسبة 60% هي نسبة الأمان لكافة الاقتصادات، وهو ما يشير بوضوح إلى إمكانية حدوث أزمات، خصوصاً أن ارتفاع حجم الدين يسير بسرعة تفوق التوقعات، إذ توقع مكتب الموازنة بالكونجرس أن يتجاوز حجم الدين الأميركي 56 تريليون دولار في عام 2034، ومع أنه يتم حالياً تجاوز أزمة الديون من خلال طباعة الدولار، إلا أن المسألة هنا تكمن في تساؤل، مؤداه: متى تستمر الطباعة؟ فالعديد من دول العالم الفاعلة تتخلى عن التعامل بالدولار، صحيح بصورة بطيئة وتدريجية، إلا أن العملية بدأت وستستمر.
وفي جانب آخر تتبدل مراكز ترتيب الدول من ناحية حجم الاقتصاد، فالصين تسابق الزمن لتتحول إلى أكبر اقتصاد عالمي، في حين أزاحت الهند كافة الدول الأوروبية عن مراكزها السابقة، فيما عدا ألمانيا لتحتل حالياً المركز الخامس، كأكبر اقتصاد عالمي، كما تتقدم بعض دول مجموعة العشرين بخطى حثيثة لاحتلال مراكز، ضمن الدول العشر الأولى، ضمن أكبر الاقتصاديات.
ونظراً لهذه التغيرات الجارية بسرعة، فإن تداعيات عديدة ستترتب عليها، بما في ذلك اشتداد حدة الصراعات والحروب، والتي قد يكون بعضها مدمراً وشاملاً، مما يتطلب إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والتجارية الحالية، فتسيير الاقتصاد العالمي وإدارته بالأساليب والأنظمة السابقة لم يعد ممكناً، فلكل مرحلة تاريخية أنظمتها وقوانينها ومراكز القوى المؤثرة فيها.
لذلك، فان الوضع العالمي أمام خيارين. إما استمرار الإصرار على إدارة الاقتصاد الدولي بالطريقة الحالية والتي تتناقض مع مراكز القوى المستجدة، مما يعني الصدام الحتمي بين القوى التقليدية والصاعدة، مع ما يمثله ذلك من خسائر جسيمة لكافة الأطراف، وإما القبول بحجم التغيرات الجارية والتعامل معها بروح براغماتية عملية والأخذ بعين الاعتبار مصالح القوى الصاعدة، والتي تكتسب المزيد من القوة بفضل ما تتمتع به من ميزات نسبية سبق وأن أشرنا إلى بعضها، مما يفتح المزيد من الآفاق للتعاون الدولي على أسس جديدة تتميز بالإنصاف والعدالة في العلاقات الاقتصادية الدولية.
*خبير ومستشار اقتصادي