اتسمت مقاربة دولة الإمارات العربية المتحدة لقضية الفتاوى الدينية بالشجاعة والقدرة على طرح الإشكاليات الحقيقية التي جرى تجنُّبها طيلة عقود، على الرغم من الأهمية التي تحتلها هذه القضية لدى المسلمين في كل أنحاء العالم، وتأثيرها الروحي والوجداني الذي يجعل تجاهل واقعها ومستقبلها مشكلة حقيقية تواجه العالم الإسلامي، وتَحُول في كثير من الأحيان بينه وبين تحقيق طموحات الدول والشعوب إلى التنمية والتطور.

وتمثل المساهمات العلمية الإماراتية في مؤتمر «الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع»، الذي نظمته الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، واحتضنته جمهورية مصر العربية، يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين (29 و30 يوليو 2024)، إضافاتٍ مهمةً تكشف القدرةَ على طرح الأسئلة الحقيقية والملحة وتقديم إجابات شرعية وافية عليها، وكذلك القدرة على ترجمة هذه الإجابات الفكرية والنظرية إلى استراتيجيات وخطط للعمل تتولاها جهات تمتلك أعلى درجات الكفاءة لتنفيذها على النحو الأمثل. وتتسم عناصر «الرؤية الإماراتية» لقضية الفتوى بوضوح منطلقاتها وغاياتها، وضوحاً تاماً.

ويمكن إجمال هذه المنطلقات والغايات في توضيح الدكتور عمر بن حبتور الدرعي، رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، للرؤية التي انطلق منها المؤتمر العلمي الثاني لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، الذي عُقِد في أبوظبي يومي 7 و8 نوفمبر 2023، وهي تتضمن «بناء نموذج حضاري للفتوى يستجيب للمستجدات، ويُعزز السمعة العالمية للدولة ورؤيتها الإنسانية»، و«الاستباقية في صناعة الحلول الشرعية للتعامل مع المستجدات العلمية في ضوء واقع المجتمعات الإنسانية»، و«تحقيق التكامل والتلاقي المعرفي والحوار بين الخبراء والمتخصصين في العلوم الشرعية والطبيعية، تفعيلاً لأدوات الاجتهاد الحضاري، واستدعاءً للمناهج العلمية الأصيلة والرصينة، بغرض الوصول إلى مقاربات وحلول شرعية وقانونية وأخلاقية وإنسانية، تعمل على معالجة التحديات التي تفرضها القضايا المعاصرة المستجدة».

وقد أعاد الدكتور عمر الدرعي التأكيدَ على هذه الثوابت خلال كلمته، الثلاثاء الماضي، في مؤتمر «الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع»، بقوله إن «المقاربة الإفتائية التقليدية تكاد تصبح من الماضي، فآفاق الفتوى أصبحت أرحب، ومعاييرها يقتضي السياق الراهن أن تكون أوسع، فنحن اليوم - بصفتنا مؤسسات دينية وإفتائية - ينبغي أن نجعل من أولى أولوياتنا فهم واقعنا الراهن، وتصوره تصوراً حقيقيّاً، والخروج من أوهام التصورات المغلوطة، والأخذ بوصية سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بألا نُضيِّق واسعاً».

وتضمنت المساهمات الإماراتية المميزة في المؤتمر، أيضاً، تعريفاً بـ«وثيقة أبوظبي في الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية»، التي أطلقها مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، وتضمنت تسعة مبادئ مهمة، منها: تناهي الأحكام الشرعية دون تناهي الوقائع، ما يتطلب اجتهاداً في تكييف الأحكام مع الواقع، وإعادة الاعتبار لدائرة الإباحة التي ضيقها البعض، من خلال استصحاب الإباحة الأصلية في حال فقد دليل على التحريم، واعتبار أعراف المختصين في المجالات الطبية والقانونية والاقتصادية والتقنية كأساس للأحكام، وخاصة في مرحلة التكييف والتشخيص، ومواكبة الفقيه لروح العصر والتعامل الإيجابي مع المستجدات العلمية، بما لا يتعارض مع المقاصد والمبادئ الشرعية. وليس هناك من شك في أن الإسهام الإماراتي المميز في مؤتمر «الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع»، إنما يُعبِّر عن التقدم الكبير الذي أحرزته الدولة في مجال الخروج بالفتاوى الإسلامية من المأزق الذي استمر طويلاً، وتَرَك هذا المجال الديني المهم نهباً للتشدد والتطرف حيناً وللجمود والتردد حيناً.

فقد تصدَّرت دولة الإمارات على امتداد سنوات طويلة عمليةً متواصلةً من حشد الجهود في مختلف دول العالم الإسلامي ومؤسساته الدينية من أجل وضع قضية الفتوى في المكان الذي تستحقه، وتوجيه النقاشات حول الفتوى وجهتها الصحيحة، وهي الجهود التي تُثمر الآن وعياً عاماً بالقضية، وآفاقاً جديدة لمعالجة مشكلاتها المزمنة، بما يحقق تطلعات الشعوب العربية والإسلامية في عالم سريع التغير.وفضلاً عمَّا سبق، فإن التجربة الإماراتية في مقاربة قضية الفتوى، وما حققته من نجاحات، من شأنها أن تدفع دولاً عربية وإسلامية أخرى إلى إنجاز تجربتها الخاصة في هذا الصدد، ولاسيما مع وجود أجيال شابة يمكنها أن تساهم بقوة في هذه المهمة الضرورية من أجل مستقبل عربي وإسلامي أكثر استقراراً وازدهاراً.

*صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.