يرى الدكتور فريمان هربوسكي، في كتابه «الجامعة المُمَكَّنة: القيادة المشتركة، وتغيير الثقافة، والنجاح الأكاديمي»، أن مصطلح «الجامعات البحثية» لم يأتِ من قدرة الجامعة على الإنتاج البحثي عبر أعضاء هيئة التدريس، أو المختبرات المتقدمة فقط، بل جاء من وجود «أصحاب الوقف المعرفي» ضمن هيكلة الجامعة أيضاً، ومن هنا يتَّضح أن أصل هذا المصطلح يرجع -في جزء منه- إلى مفهوم الوقف المعرفي.
تُعدُّ ثقافة الوقف المعرفي ثقافة أصيلة وأساسية في تاريخ البحث العلمي، إذ تجد أسماءً مرموقة ومشهورة لعبت دوراً مهمّاً ومؤثراً في هذا الشأن، ومن هؤلاء أندرو كارنيجي، الرائد في قطاع الحديد والصلب، الذي كان معروفًا بكرمه الكبير، وتبرعاته السخية لكثير من المؤسسات التعليمية والثقافية.
وعلى سبيل المثال أسهم كارنيجي كثيراً في تأسيس معهد كارنيجي للتكنولوجيا في بيتسبرغ، الذي أصبح فيما بعد جامعة كارنيجي ميلون، وهي واحدة من الجامعات الرائدة في مجالَي البحث والتعليم على مستوى العالم.
وفي وقتنا الحاضر سجَّل كثير من أثرياء العالم أسماءهم في عدد من الجامعات بصفتهم أصحاب وقف معرفي، مثل بيل غيتس، ومايكل بلومبيرغ، ومارك زوكربيرغ. وقد وصلت إسهامات الوقف المعرفي إلى نحو 60 مليار دولار في عام 2022، كما نشرت مجلة فوربس العالمية.
والمقصد هنا أن ثقافة الوقف المعرفي ذات فوائد عدَّة من النواحي الاستثمارية، أو التسويقية، أو المجتمعية، إذ تساعد الجامعات على تنويع مصادر الدخل بدل الاعتماد على مصادر معينة وثابتة مثل الدعم الحكومي، أو الأقساط الجامعية، ولذا ينبغي لكل جامعة تشكيل مجلس يُعنى بذلك كما هو متبع في الجامعات العالمية.
وللوقف المعرفي أثر بارز في تعزيز البحث العلمي والتعليم في العالم الحديث، وتتمثل إحدى أبرز فوائده في توفير تمويل إضافي للجامعات، ما يساعدها على الابتكار والنمو بصورة مستدامة. كما يعمل الوقف المعرفي آليةً لتعزيز التعاون بين القطاعين الأكاديمي والصناعي، إذ يمكن للشركات والمؤسسات المانحة الاستفادة من البحوث والابتكارات التي تنتجها الجامعات، ومن ناحية أخرى يعزز الوقف المعرفي الدور الاجتماعي للجامعات، فهو يدعم المشروعات والبرامج التعليمية التي تعود بالنفع على المجتمعين المحلي والعالمي، وبذلك يسهم في بناء مجتمعات أكثر استدامةً وتقدماً. ويساعد تفعيل ثقافة الوقف المعرفي في المنطقة الجامعات على تنويع مصادر دخلها، ويمنح رجال الأعمال، المعروفين بحب الخير ودعم البحث العلمي، فرصة مميزة للإسهام في هذا المجال.
وإضافةً إلى ذلك يُعد الوقف المعرفي مصدراً لإلهام الأجيال الجديدة من الباحثين والطلاب، وتحفيزهم على ثقافة العطاء والمسؤولية الاجتماعية، ما يجعله عاملاً مهمّاً في بناء مستقبل أفضل للتعليم والبحث العلمي في مختلف أنحاء العالم. وباختصار: يمثل الوقف المعرفي ثقافة عميقة وأساسية في مجال البحث العلمي والتعليم العالي، ويجسد هذا المفهوم التزاماً بالاستدامة والابتكار والتعاون، ولذا يُعد هذا النوع من الوقف حجر الزاوية في تطوير الجامعات، وتعزيز دورها في خدمة المجتمع والإنسانية.
* مستشار جمعية المهندسين الإماراتية