تحدّث سيمون ستيل، الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ من غرينادا التي دمرها الإعصار «بيريل» في نهاية هذا الأسبوع، وقد بدا عليه التأثر الواضح، كاشفاً عن أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات الأكثر تضرراً نتيجة التغير المناخي.

وفي ظل المعاناة التي تعيشها مجتمعات هذه الجزر الكاريبية الصغيرة وهي تلملم ما تبقى من المنازل والبنى التحتية المدمرة، أكد الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) أن «حكومات هذه الجزر النامية تعاني محدودية الموارد المالية.

فهي مثقلة بالديون، ولا تملك الإمكانات المالية اللازمة للاستمرار في الاقتراض من أجل إعادة بناء ما سيتم تدميره من جديد».

صورة واحدة يمكن أن تعبّر عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي المؤلم الذي يمثله التغير المناخي، وهي: حياة الناس وموارد رزقهم التي اجتاحتها الأعاصير بين ليلة وضحاها، وبحسب ما يشير إليه ستيل، فإن تأثير الإعصار «بيريل» يسلط الضوء أيضاً على المحور الأساسي للتحديات المناخية العالمية، وهو توفير سبل الوصول إلى التمويل بتكلفة معقولة للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية الأكثر عرضة للخطر.

بكل بساطة، لن نحرز أي تقدّم في معركتنا لمكافحة التغير المناخي إذا لم نصلح النظام المالي، بحيث لا تتعرض الدول ذات الدخل المنخفض لعواقب تزايد الديون المتراكمة، وتصبح أسيرة لها وتضطر إلى سدادها بفوائد أعلى على الأموال المقترضة، كل ذلك من أجل مكافحة تداعيات الظروف المناخية المتطرفة التي تزداد حدتها.

وفي هذا السياق، فإن الاجتماع المقبل والثالث لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لدول مجموعة العشرين هذا العام، والذي تمّ وصفه بأنه لحظة «النجاح أو الفشل» لترؤس البرازيل للمجموعة، يُشكل أيضاً محطة مفصلية وحاسمة في الخطاب العالمي بشأن المناخ. هذا الوصف الدقيق لاجتماع ريو دي جانيرو، الذي انعقد في 25 و26 يوليو الجاري، يعكس إلى حد كبير أهمية المعادلة الخاصة بتمويل العمل المناخي في جدول أعمال الرئاسة، والضغط على الدول الأعضاء لتحقيق طموحها في إصلاح نظام تمويل العمل المناخي. وتسعى البرازيل التي تتولى رئاسة مجموعة العشرين إلى طرح هذا البند بقوة على جدول الأعمال.

فقد تم إنشاء فريق العمل «Clima» أو فريق العمل العالمي لمكافحة التغير المناخي في مجموعة العشرين لهذا العام؛ بهدف تعزيز المواءمة الاقتصادية الشاملة والمالية على مستوى العالم، من أجل تحقيق أهداف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ واتفاقية باريس. وستكون مهمة «Clima» مؤشراً مهماً لما وصل إليه الخطاب المتعلق بتمويل العمل المناخي في الأشهر المصيرية المقبلة. فمع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر الأطراف «كوب 29» في باكو، و«كوب 30» في بيليم بعد 18 شهراً، فإن نتائج اجتماعات وزراء المالية في ريو هذا العام «خلال شهري يوليو وأكتوبر، يتم الانتهاء من صياغة البيان الختامي والاتفاق عليه» سترسم الطريق إلى مفاوضات الأمم المتحدة بشأن المناخ في أذربيجان والبرازيل.

والأهم من كل ذلك، أن نتائج اجتماع وزراء المالية لدول مجموعة العشرين ستظهر أيضاً التزام المجتمع الدولي والتقدم المحرز في المسار الذي تم تمهيده في مؤتمر الأطراف «كوب 28» في دولة الإمارات لتنفيذ اتفاقية باريس. وخصوصاً في ما يتعلق بالاستثمار في عملية التحول في مجال الطاقة. هناك غرابة أخرى يجب مراعاتها في التقويم الدولي هذا العام. فحقيقة أن قمة قادة مجموعة العشرين تتداخل مع الأيام الأولى من مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين عندما يجتمع قادة الدول عادة في محادثات المناخ التابعة للأمم المتحدة، مما يعني أننا قد نشهد اندماجاً مباشراً لأجندات الحدثين المؤثرين.

ليس مصادفة أن تتصدر مسألة تمويل العمل المناخي جدول أعمال الاجتماع الوزاري المجموعة العشرين لهذا العام، فقبل سبعة أشهر فقط، أعلنت الدورة الـ 28 لمؤتمر الأطراف «كوب 28» في دولة الإمارات عن بداية عصر جديد لنهج عملي وواقعي يهدف إلى سد الفجوة في تمويل العمل المناخي، والاستثمار في التحول العادل للطاقة الذي لا يترك أحداً خلف الركب. وإلى جانب ضمان التزامات جديدة بقيمة 85 مليار دولار أميركي، وتجديد موارد صندوق المناخ الأخضر، فقد نجح مؤتمر الأطراف «كوب 28» في دولة الإمارات في التوصل إلى اتفاق على إطار عمل عالمي جديد لتمويل العمل المناخي. ويتضمن هذا الإطار عشرة مبادئ لسد الفجوة التمويلية التي يتطلبها التحول المناعي، والتي تتطلب حوالي 7 تريليونات دولار أميركي سنوياً لغاية العام 2050، بحسب أحدث البيانات الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا».

إن استثمار 7 تريليونات دولار أميركي إضافية سنوياً بغية جعل الاقتصاد العالمي أخضر وسد فجوة التمويل لا يمثل أمراً فائق وحاسم الأهمية على صعيد تحقيق أهدافنا المناخية المشتركة فحسب، بل إنه يشكل أيضاً فرصة غير مسبوقة كفيلة بتسريع النمو الشامل والمرن مناخياً والمنخفض نسب الكربون، على الصُعد المحليّة والإقليمية والعالمية. ويتمثَّل الأمر الجيّد بكون تمويل المناخ يتحرّك في الاتجاه الصحيح، وفي هذا السياق، تم خلال عام 2023 استثمار أكثر من 1.7 تريليون دولار في ميدان الطاقة النظيفة دون سواها، وتزامنت هذه الخطوة مع نمو بنسبة 13.9 بالمئة على صعيد قدرة الطاقة المتجددة، بحسب البيانات الإحصائية العائدة إلى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «إيرينا».

ولكن الخبر غير السار هو أن تمويل المناخ لا يسير بالسرعة الكافية، علماً بأن المزيد من التأخير يؤدي إلى تفاقم شدة الاحتياجات المستقبلية، حيث إن المبلغ السنوي المطلوب اليوم لتمويل المناخ يبلغ 8 تريليونات دولار، وهذا المبلغ سيرتفع إذا استمر العجز في التمويل. ويمكن ملاحظة هذه الفجوة على مستوى التمويل المناخي بشكل خاص في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية في دول العالم الجنوبي.

وبحسب تقرير صادر عن فريق الخبراء المستقل ورفيع المستوى المعني بتمويل المناخ، تُوجد حاجة إلى توظيف استثمارات بقيمة 2.4 تريليون دولار في كل سنة في اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، وذلك بحلول العام 2030 تستهدف أولويات التحول العادل في مجال الطاقة، والتكيف والتمتع بالمرونة والقدرة على التعافي، والخسائر والأضرار، وحماية البيئة والعمل على إعادة تأهيل الطبيعة.

ويمثل هذا الرقم زيادة بمقدار أربعة أضعاف مُقارنة بالمستويات الحالية المُكرسة لصالح هذه المجالات. وكما أبرز التقييم العالمي الأوّل، تُعاني الاستثمارات في مجال المناخ والتمويل المتاح، في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية من نقص حاد على هذا المُستوى. أكثر من ذلك، فإن الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تعتبر متأخرة عن اللحاق بالركب في مجال الطاقة النظيفة. ففي الوقت الذي بلغت فيه الاستثمارات في ميدان الطاقة النظيفة أعلى المستويات العالمية على الإطلاق خلال عام 2023، تم تسجيل أكثر من 90 في المائة من نسبة الزيادة المُحققة في هذه الاستثمارات منذ عام 2021، في الاقتصادات المصنفة متقدمة ومتطورة، وفي الصين.

أما البلدان التي تعاني دخلاً منخفضاً أو دخلاً منخفضاً إلى متوسط، فهي استحوذت على ما نسبته 7% فقط من إجمالي الإنفاق في مجال الطاقة النظيفة خلال عام 2022. إنَّ التحديات التي تواجه جهود تغيير الوضع الراهن الخاص بالتمويل المنافي رأساً على عقب واضحة، فالأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تواجه أسعار فائدة أعلى في ما خصّ التمويل، وتُعاني إطارات هيكليّة غير عملية على صعيدي السياسات وتصميمات السوق، ومن تكلفة أعلى على مستوى رأس المال، ويجب بالتالي أن تكون الحلول بالقدر نفسه من الوضوح. واسترشاداً بالتعاون على المستوى الدولي، نحن نحتاج لأن نشهد زيادة عاجلة في نسب التمويل المرتبط بشؤون المناخ بشكل يمنح الأولوية لاحتياجات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، بموازاة توفير حلول محضرة مسبقاً وكفيلة بأن تخفف من أعباء الديون.

فمصير معركة مكافحة تغير المناخ والسباق نحو تحقيق التحول في مجال الطاقة، يتحددان فوزاً أو خسارة، عند هذه الخطوط الأمامية: الجزر الصغيرة، والدول النامية، والاقتصادات الضعيفة والناشئة. ولهذا السبب بالتحديد، تسعى مبادرات على غرار منصة تسريع تحول نظام الطاقة التابعة لـ«آيرينا»، و«الحياة وسبل العيش»، لتسريع عملية تمويل انتقال الطاقة، بغية تعبئة جهود التمويل الضروري، وإعادة توجيهها نحو المناطق التي تحتاج إليها بنسبة أكبر في العالم - بغرض بناء أو إعادة بناء البنية التحتية، وكذلك لدعم القطاعات والصناعات الحيوية والحاسمة والتي تعتمد عليها المجتمعات في الخطوط الأمامية، ومنها مثلاً الغذاء والزراعة والرعاية الصحية والتعليم. ولتأسيس قدرات جديدة في مجال الطاقة حتى لا يعود يعيش أي شخص في الظلام. هذا هو المسار الذي يجب أن يتدفق التمويل إليه، لكن من الضروري قبل ذلك، العمل على فتح وتشغيل التدفق من الأعلى. ومن الضروري إعداد وإطلاق هيكل مالي جديد بغرض أن يصبح تدفق رأس المال أكثر سرعة وسهولة.

إنَّ الطبيعة المنهجية لأزمة المناخ تعني أنه من غير الممكن معالجتها بشكل فعّال إلا عبر اعتماد إصلاحات مناسبة وفعّالة تشمل الواقع الاقتصادي ككل، وتكون المصممة لأن تؤمِّن التمويل اللازم، على صعيدي الكمية والنوعية، لصالح كل المجتمعات بغرض الانتقال إلى مناخ مرن وأمن. لذلك، وفي الوقت الذي تحوّل فيه انتباهنا إلى ريو دي جانيرو، فإن المجتمع الدولي حريص على أن يرى كيف أن الآليات والمبادئ التي جرى إعدادها والتوافق عليها خلال مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، تعمل على تمكين القادة من إطلاق الزخم اللازم لتوفير التمويل وتقديم الحلول لصالح أولئك الذين يُصنفون في قلب النقاش المرتبط بقضية المناخ.

د.نوال الحوسني*

*المندوب الدائم لدولة الإمارات لدى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا».