في كتاب المفكر غسان سلامة، الأخير، وعنوانه «التَّوق إلى الحرب» (المريخ) تتبعٌ دقيقٌ للبحث عن الحرب أو حلّ المشكلات بالقوة. لا يجادل أي أحدٍ في أنه لا بقاء لعالم الإنسان إلاّ بالسلام. والمفروض أنّ الأمم المتحدة، والتي قامت (عام 1945) بعد حربين ضاريتين كلفتا العالم عشرات الملايين من القتلى، إنما أُنشئت لتجاوُز إمكانيات اللجوء إلى الحرب ومقاومتها حتى بجنود وقوات للسلام تحول دون قيام الحرب أو امتدادها.
ولأنّ الحروب يمكن أن تكون لها أهداف وأسباب استراتيجية - وهو الذي حدث غالباً - فقد أُنشئ مجلس الأمن في قلب الأُمم المتحدة لتجنب وقوع الحروب وإخمادها إن وقعت. وإذ المعروف أنّ الأزمات الصحية وأزمات الغذاء يمكن أن تؤدي إلى اضطراباتٍ تصبح حروباً، فقد أُنشئت الوكالات والمفوضيات الأممية المختصة بالصحة والغذاء والزراعة والمرأة وحقوق الإنسان والبيئة.. إلخ، للوقاية من الأسباب الجانبية للحروب والنزاعات. حتى إذا استعر نزاعٌ أو تفاقم هناك محكمتا العدل الدولية والجنايات الدولية. كلُّ ذلك لم يَحلْ دون نشوب الحروب بدءاً من الحرب الكورية (1950-1953) وصولاً إلى الحروب الناشبة حالياً وأهمها الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب إسرائيل في غزة.
إنّ القوى الكبرى هي المسيطرة في مجلس الأمن. وكان المعتقد أنها ما دامت حَكَماً فإنها لن تلجأ بنفسها إلى الحرب، وأنها ستضغط على أنصارها وأتباعها الصغار والمتوسطين لإيقاف الحروب فيما بينهم.
بيد أنّ المشكلة التي يتعذر حلّها عندما تشن الدولة العظمى بنفسها وجيوشها حروباً بحجة الدفاع أو بحجة بناء الديمقراطية! وهو ما فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان (2002) وفي العراق (2003). وعبر ثلاث أو أربع مناسبات خاضت روسيا منذ عام 2007 حروباً مع جارتيها جورجيا وأوكرانيا. وتدخلت الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية لإخماد تلك الحروب، لكنها لم تنجح.
صحيح أن الولايات المتحدة اضطرت للخروج من أفغانستان وتوشك أن تخرج نهائياً من العراق، لكنْ بعد أن قاتلت لقرابة عشرين عاماً، مع أنها تملك جيوشاً وأساطيل جرارة. أما روسيا فحسمت الأمر لصالحها في الحروب التي خاضتها أو تخوضها.
ومعنى ذلك أن الدول الكبرى عندما تمتلك مصالح في الحرب تخوضها وهي آمنة، لأنها تستطيع بالفيتو أن تحول دون اتخاذ قرارات ضدها في مجلس الأمن، ثم إن حصلت فإنها تستطيع تجاوزها.هل يعني ذلك أن مجلس الأمن صار مؤسسة فاشلة؟ أم أنّ الحرب جزء من طبيعة الإنسان وبخاصةٍ عندما تدخل الدول وعندها الـ (Raison d'etat) أو سمعة الدولة وكرامتها ومصالحها الحقيقية والمتوهَّمة؟! يقول خبراء السياسة الدولية إنّ الأمرين غير ثابتين. فالتَوق إلى السلام شعورٌ ووعيٌ إنساني غلّاب، وإنما المشكلة في مكانٍ آخر هو الافتقار إلى طرفٍ ثالثٍ للتوسط يكون رأيه نافذاً أو مسموعاً، لأنه لم يُعرفْ عنه خوض الحروب لأي سببٍ كان. أما في المدى الطويل فهو المجتمع المدني العالمي، وتقدم تأثيرات الحوار الديني الناشر لقيم السلام والتضامن.
نحن نكرر دائماً مقولة هانس كينغ: لا سلام في العالم إلّا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالإجماع (فيما بينها) على أخلاقٍ عالمية. وفي مجال الوساطة تتقدم الصين الآن، وإن اتخذت موقفاً. وتتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة التي تتوسط من جهة، وتشتغل في الوقت نفسه على الحوار الديني وفي الملف الإنساني. في الحرب على غزة تدخلت الوساطات، وتدخلت مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية. صحيح أنها ما استطاعت إنهاء الحرب، لكن هذه الضغوط الإنسانية توشك أن يكون لها تأثير في إحلال السلام.
*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية