لا يمكن الحديث عن الهوية، من منظور فلسفي، بمعزل عن الإشكالات التي يطرحها خاصة في عالم اليوم، حيث تنبت الهويات المنغلقة فتُفْسِد حيث تَظنُّ الإصلاح.

لكن الحديث الإشكالي لن يصرفنا عن محاولة لتقعيد مفهوم نرى وضوح دلالته، قمينٌ بأن يجعلنا موصولين بتراثنا وشخصيتنا القاعدية، منفتحين على واقعنا وفلسفاته المتعددة، ومن هنا لا يمكن فصل الحديث عن الهوية عن مفهوم الانتماء بتجلياته المختلفة. يتأزم القول في الهوية عندما نرى بأمّ أعيننا كيف يؤدي الاعتقاد بالهوية المتفرّدة إلى إشاعة الكراهية وتفشي العنف وتجاهل الهويات الأخرى التي تحظى عند المنتسبين إليها بالتقدير والاعتبار، حيث يمتنع السّلام لغياب الاعتراف بتعدد الانتماء، فالهويات المنغلقة لا يمكن أن تكون إلا هويات قاتلة بعبارة أمين معلوف، فكيف السّبيلُ إلى الخروج من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التّفرد إلى التّعدد؟

يحظى مفهوم الهوية بإعجاب الكثيرين باعتباره الوسيلة الوحيدة لخلق اللحمة بين الجماعة الواحدة، ولعل رالف لنتون، وهو يبدع مفهوم «الشّخصية القاعدية»، باعتبارها شخصية اجتماعية ثقافية مشتركة بين مجموع مكونات مجتمع ما يربط بين أفراده نظام مشترك من القيم والمعايير وطرق الاستجابة، لم يكن بعيداً عن مفهوم الهوية الخاصة. فمفهوم «الشخصية القاعدية»، هو مفهوم أنثروبولوجي ثقافي يصف طبيعة المجتمعات وترابطها من خلال نظام موحد من القيم والاستجابات، وكذا مفهوم الهوية.

لا تخطئ النّاظر إلى المجتمع العربي هوية عامة مشتركة بين أفراده، وليس من العيب في شيء أن يفخر الإنسان بهويته، ولكن العيب أن يذهل عن «الشخصيات القاعدية» للآخرين غير معترف بها، مع حرص كبير على تخسيسها وإقصاء أصحابها. عندئذ تصبح الهوية منغلقة وقاتلة للآخر، والقتل ضربان: قتل مادي يُجلّيه هذا العنف الملطخ بالدّماء جراء حقد طائفي مدمر، وقتل رمزي تكشفه هذه الإساءة المقيتة لرموز الأديان جراء سخرية طليقة جارحة. والقتل، بنوعيه، كلما احتد أنتج قتلاً شرساً، إذا لم يكن من العقل عاقل، ولا من القوانين الدولية عاصم.

ومن بلاد الله التي تسعى إلى جعل الهوية متعددة ومنفتحة، وتريد بإصرار أن تتعايش على أرضها جنسيات مختلفة بعقائد ومذاهب وعادات ورموز متعددة، الإمارات العربية المتحدة، التي تقدم نموذجاً لانفتاح الهوية وتعدّدها، إذ في الوقت الذي تسعى فيه إلى تثبيت شخصيتها القاعدية والتّنويه بها، والتّرويج لها، والذّوذ عنها، لا ترى غضاضة في الاعتراف بانتماءات الآخرين، والحرص على وضع الحدود القانونية لصونها، تجسيداً للاحترام المتبادل، وتكريساً للتعاون المشترك البناء. ولا يمكن للدّارس أن يلحظ هذا المعطى الحضاري المهم دون أن تحضر في ذهنه صورة «المعلم الأول» للإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.

ومن أراد أن يلمس عن كثب صورة هذا المعلم فلينظرها في عيون عياله الكبار والصغار، ولْيَتحسسها في قلوبهم النّابضة بحبّه، والخفّاقة بشكره لجميل صنيعه بهم بروح الأبوة الخالصة، كما عليه أن يتلمّسها في طبيعة الحياة الإماراتية التي رسّمت معالمها توجيهاتُ وأقاويلُ معلّم الإمارات الأول، والتّي يتقصّاها أبناؤه ومحبّوه من بعده، وهو معطى مهم يدعو الباحثين والدّارسبن إلى تتبّعه في ما خلّف الشيخ زايد من شذرات قولية أو مُصوّرة أو مكتوبة، وللشّذرات عبر التاريخ الثقافي دور كبير في صنع الهويات، التي أرادها الشيخ زايد منفتحة غير منغلقة، متعددة غير متفردة.

 

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.