جمع لقاء في القصر الجمهوري ببيروت رئيس الجمهورية الأسبق شارل حلو والمدير العام لوكالة «رويترز» للأنباء السيدة غيليت. كان لبنان في ستينيات القرن الماضي -كعادته- مأزوماً. سألتْ غيليت الرئيس حلو: ماذا يشغل بالك في هذه الأيام؟ ردّ الرئيس اللبناني: «ما يشغلني حقاً هو مصير الإنسانية، إذا سيطر النمل على الكرة الأرضية».

عندما روت لنا مديرة الوكالة هذا الحوار قالت إنها صُدمت من الجواب.. لكن بعد انتهاء ولاية الرئيس الحلو سألتُه عن هذا الحوار، فقال: صحيح.. عندما دخلت السيدة غيليت إلى مكتبي كنتُ أقرأ كتاباً عن النمل. وكنتُ متأثراً بما ورد فيه، وما زلت.. حول القدرات التنظيمية للنمل والتعاون بين جماعاته. واليوم تبدي بريطانيا قلقاً من المعلومات العلمية التي تؤكد أن نسبة الديدان تتراجع بشكل مقلق في أراضي المملكة المتحدة.

ويُعزى القلق إلى أن الديدان تقوم -كالنمل- بمهمة تهوية باطن التربة من خلال الممرات التي تحدثها فيها. وهذا يساعد على دخول الأوكسجين لإغناء الزراعة وتعزيزها. وفي الدراسات الإحصائية أن في كل متر مكعب واحد من التربة الصحية يوجد كيلومتر من ممرات «التهوية» التي تحدثها جماعات الديدان وحدها. صرف العالِم الشهير تشارلز داروين (صاحب نظرية النشوء والتطور) عشرينَ سنة من عمره في دراسة الديدان، ونشَرَ نتائجَ الدراسة في كتابه «حول سلوك الديدان»، والذي نال شهرة واسعة تضاهي شهرة كتابه حول «النشوء والتطور».

لاحظ داروين كيف أن التربة تبدو ساكنة، لكنها في الواقع تتحرك ببطء وهدوء واستمرار. وانطلق في دراسته من تسجيل هذه الملاحظة الأولية. وصرف الكثير من عمره في دراسة الديدان وفي إجراء التجارب عليها للتعرف على سلوكها وردات فعلها. من ذلك مثلاً أنه كان يرشّها أحياناً بالعطور، وأحياناً أخرى بالغاز.

كان يطعمها بأوراق النعناع أحياناً، وبأوراق الملفوف أحياناً أخرى. كان يوجه إليها موسيقى ناعمة أحياناً (بيانو)، وأصواتاً أشبه ما تكون بالصخب العام أحياناً أخرى.. ثم كان يسجل ردات فعلها. ومن ردات فعلها -كما يقول- أن الديدان لم تكن تتحمّل رائحة فمه عندما يقترب منها! يقول أحد العلماء المعاصرين، وهو ستيفن فوند الباحث المختص في دراسة الحشرات، إن ما نراه من كثبان في الحقول خرج من بطون الديدان، فهي التي نقلته من باطن الأرض إلى سطحها في عملية أدّت إلى تجديد التربة من جهة وإلى تهويتها من جهة ثانية. ومن هنا تبدو الديدان المساعد الأول للإنسان في الزراعة.

ومن أجل ذلك تبدي المملكة المتحدة قلقاً من نتائج الدراسات التي تؤكد تراجع نسبة الديدان حتى إنها شكّلت لجنةً علمية للبحث في أسباب هذه الظاهرة ولاقتراح الحلول لمعالجتها. هل يكون السبب في المبيدات الزراعية، والتي يدل اسمها على «الإبادة»؟! أم في طريقة حرث التربة دون مراعاة لوجود ممالك الديدان (والنمل) في عمقها؟ للإجابة على هذه الأسئلة، تشكلت في بريطانيا (وربما في دول عديدة أخرى) هيئة علمية للبحث وتقديم المقترحات. فقد عملت الديدان، وعلى مدى أجيال وحقب عديدة، من أجل تحويل البيئة وإصلاح التربة وتهويتها لتكون صالحة للزراعة. واليوم فإن هذه الديدان بدأت بالانقراض جيلاً بعد جيل، مما يرسم علامة استفهام حول مستقبل الزراعة، وتالياً حول المستقبل الغذائي للإنسان نفسه.

لا يملك العلماء حتى اليوم جواباً قاطعاً حول أسباب خطر الانقراض الذي تواجهه الديدان. لقد انقرضت حيوانات عديدة على مرّ الأزمنة، واستطاع الإنسان أن يتكيّف مع عدم وجودها.

بل لعله وجد في انقراضها -الديناصورات مثلاً- منطلقاً للتحول ولإعادة تنظيم مجتمعاته بالانتقال من الصيد إلى الزراعة. فلماذا إذا تنقرض الديدان؟ وأي مستقبل للزراعة بدونها؟ أو بالأحرى أي مستقبل للإنسان؟

* كاتب لبناني