باختيار السيناتور الشاب «جيه دي فانس» مرشحاً لمنصب نائب الرئيس مع دونالد ترامب في حال فوزه بانتخابات نوفمبر القادم، يكون التيار المحافظ ما بعد الليبرالي قد مثّل في أعلى هرم السلطة في الولايات المتحدة الأميركية.
فانس ليس مجرد سياسي من جيل «الجمهوريين الجديد»، بل هو أحد الرموز الفكرية للاتجاه الأيديولوجي الصاعد الذي يطلق عليه في الأدبيات الأميركية «ما بعد الليبرالية» (postliberalism). ما نريد أن نبيّنه هو أن الحالة الترامبية ليست موجة عابرة في الولايات المتحدة، ولا تعبيراً عن طموح شخصي لرجل خارج عن التواضعات المألوفة في الحقل السياسي، بل هي تعبير عن حركية فكرية وأيديولوجية عميقة الحضور والتأثير في الساحة الأميركية.في كتابه «نحيب الرعاع» (Hillbilly elegy)، الصادر في عام 2016، يعبّر فانس عن أفكار هذا التيار المحافظ المعادي لليبرالية، بأسلوب سردي جذاب.
لكن الأمر يتعلق في الحقيقة بتوجه فكري كامل، له كتَّابُه ووجوهُه الإعلامية، وقد أحاطت مؤخراً كلُّها بالرئيس السابق دونالد ترامب. ومن بين هذه الشخصيات التي التقت في بداية الشهر الحالي في واشنطن «ستفن ميلر»، أبرز محرري خُطب ترامب وأحد مستشاريه الرئيسيين، وقد اعتبر أن وصول ترامب إلى الحكم في انتخابات نوفمبر القادم سيكون «نقطة تحول في العالم الغربي».
ولعل الواجهة الفكرية البارزة لهذا التيار تتشكل من الفيلسوف ذي الأصول الإسرائيلية «يورام حازوني» الذي كتب عملين محوريين يطرح فيهما نزعتَه القوميةَ المحافظةَ، بالرجوع إلى الفيلسوف الانجليزي المناوئ للتنوير «إدمونك بورك» («فضيلة القومية»، و«النزعة المحافظة.. إعادة اكتشاف»)، والمفكر السياسي «باتريك دنين» الذي أصدر كتابين هامين، أحدهما بعنوان «لماذا فشلت الليبرالية؟» وثانيهما بعنوان «تغير النظام.. نحو مستقبل ما بعد ليبرالي».
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن نقطة انطلاق هذا التيار الداعم لترامب هي رفض المقاييس الليبرالية الكلاسيكية، في نزوعها التنويري التقدمي ومنظورها الفردي ومقاربتها العلمانية في تصور المسألة الدينية السياسية.. بما يقتضي إعادة الاعتبار لأفكار الالتزام الاجتماعي والواجب والتقليد، ومن ثم الدفاع عن المؤسسات الأهلية الجماعية مثل الأسرة والكنيسة والأمة. وفق هذا التصور، ينظر إلى مفهوم الحرية الذي تتأسس عليه الأفكار الليبرالية بصفته محرَّفاً ومُفضيا إلى تجزئة المجتمعات وإفساد الضمير الإنساني وتقويض القيم المركزية للأمة، على عكس التصور اللاهوتي المسيحي الذي يقوم على ضبط النفس وتنظيم النوازع والأهواء تحت وصاية التقليد والدين.
وهكذا يتم نقد مفهوم «التقدم» الذي هو الإطار المرجعي لحركية التنوير، بصفته يتعارض جوهرياً مع دلالة «الخير المشترك» كما تَصورَه الفلاسفةُ واللاهوتيون في العصر اليوناني والعهود الوسيطة (من أرسطو إلى توماس الأكويني). إنه يؤسس لفهم نسبي عدمي للقيم، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تبرير الاستبداد والتسلط الأعمى، ما دامت منظومة القيم والحقائق لا تقبل الضبط والإحاطة. وبالنسبة للقوميين المحافظين الأميركيين، يعتبر النموذج الهنغاري (المجري) الذي وضعه رئيس الحكومة فيكتور أوربان مثالا للاحتذاء في تمسكه بثلاثية الدين والوطن والأسرة. ما نستخلصه من عرض أهم أفكار التيار المحافظ ما بعد الليبرالي في الولايات المتحدة، هو أنه يختلف في الجوهر عن النزعة المحافظة التقليدية للحزب الجمهوري الأميركي التي تغلب عليها المواقف الليبرتارية المتمسكة بمنطق السوق الحرة والفردية القانونية والانعزال الاستراتيجي، كما يختلف عن تيار «المحافظين الجدد» المسيطر في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بما يقوم عليه من فكرة التصدير الثوري للقيم الليبرالية والديمقراطية التعددية. إنه يَفهم القومية لا من منظور الأفكار التنويرية الكونية، بل من منطلق المصالح المباشرة للأمة في نطاقها الإقليمي المحدود، كما يقول «جيه دي فانس».
ومن هنا محورية مسألة الهجرة الخارجية التي يعتبرها المحافظون ما بعد الليبراليون خطراً على الأمن القومي وعلى تركيبة النسيج الديموغرافي المحلي. وبخصوص الملفات الخارجية، يرى فانس أن المواقف الديبلوماسية يجب أن تراعي ما أطلق عليه «الحدس الوطني الأميركي» الذي هو البوصلة الأخلاقية لسياسة استراتيجية غير منفصلة عن القيم العليا للأمة، لكن ضمن حسابات واقعية عملية.
لا تعارض النزعة المحافظة الجديدة الديمقراطيةَ من حيث هي التجسيد الحي للإرادة العامة المطلقة، ولا إجراء الانتخابات والإدارة التعددية للحقل السياسي، لكنها ترى في الليبرالية شكلا من رؤية العالم ومن الأيديولوجيا الشمولية التي لا تتماهى بالضرورة مع الحداثة السياسية والاجتماعية التي لا معنى لها إلا بالاتصال مع القيم الكلاسيكية المرجعية التي هي ثوابت الأمة في هويتها القومية العميقة.
*أكاديمي موريتاني