يروي عالِم الطبيعيات، الدكتور فرانس دي فال، قصةً سجّل وقائعَها أثناء دراسته سلوك الحيوانات لإعداد دراسة جامعية. فقد لفت نظرَه صراعٌ بين اثنين من القردة في حديقة الحيوانات. كان القردان يتبادلان العداءَ، ويراوغ أحدهما الآخرَ، ويتضاربان بعنف إذا التقيا.
استمرت مراقبة هذه الحالة عدة أيام، إلى أن قرّر أحد القردين أمراً آخر، فصعد شجرة عالية وأشار إلى الآخر بيده وكأنه يقول له «دعنا نتصالح». وخلال دقائق نزل من الشجرة حيث لاقاه القرد الآخر بالأحضان، فتعانقا وتبادلا القبلات.
وصف الدكتور «دي فال» الحادثة بأنها «لقاءُ تسامح»، لكن هل يشعر الحيوان الذي يصفه العلماء بأنه كالآلة المجرّدة من المشاعر ومن القيم والمفاهيم، بالحاجة إلى تناسي الماضي وتجاوز الخلافات والأحقاد والصراعات، وإلى ممارسة فضيلة التسامح؟
سبق الدكتور «دي فال» إلى الإجابة عن هذا السؤال بنعم العالِم الشهير داروين، إذ سجّل في مذكراته العلمية مشاهِدَ لقردة «يضحكون كما يضحك أحفادي»، على حدّ قوله. ومع هذه الفضيلة اكتشف العلماء فضيلةً أخرى هي التعاون. فقد وضع صندوق ثقيل الوزن أمام مجموعة من القردة، يعجز أي واحد منهم عن تحريكه منفرداً. تعاون اثنان منهما لإزالته من موقعه. وهكذا أضاف العلماء إلى هذه الحيوانات فضيلةَ التعاون إلى جانب فضيلة التسامح، وهما من الفضائل الأساسية في المجتمع الإنساني، فبهما يكون هذا المجتمع ومن دونهما لا يكون.
ولعل أغرب المشاهدات التي سجّلها الدكتور «دي فال» تلك المتعلقة بمشاعر الرحمة. فقد سقط إلى الأرض من عش في شجرة مرتفعة طائر صغير لم ينم ريشه بعد، فلما رآه أحد القردة هرع إليه وحمله بلطف وتأنِّ وتسلّق به الشجرةَ ليعيده من جديد إلى العش إلى جانب بقية أقرانه من الطيور. وهذا يعني أن القردة تتمتع، إلى جانب مشاعر التسامح والتعاون، بمشاعر الرحمة والاهتمام بالآخر المختلف.. وحقه بالحياة.تؤكد الدراسات العلمية أن الشفرة الوراثية (DNA) الخاصة بالإنسان لا تختلف عن الشفرة الوراثية للقردة إلا بنسبة ضئيلة جداً تصل إلى واحد ونصف بالمائة فقط.
ويلتقي هذا الواقع التكويني للقردة مع الوقائع التي تؤكد أن هذا الحيوان يشارك الإنسانَ في العديد من المشاعر، مثل الفرح والضحك والحزن والبكاء، وكذلك التسامح والتراحم. توجد في الهند طائفة دينية تحترم مشاعر القردة إلى حد اتهام هذه الطائفة بتقديسها؟ وهذا ليس صحيحاً، إن احترام حق الحياة ليس عبادة ولا تقديساً. وفي الهند أيضاً تعرفتُ على طائفة «الجين» التي تحترم حق الحيوان في الحياة، بما في ذلك الصراصير.
وعندما دخلتُ معبداً لهذه الطائفة في مومباي، كان عليّ أن أغسل يدي قبل الدخول، فوجدتُ صنبور الماء ملفوفاً بقماش سميك بحيث يسيل منه الماء بصعوبة، مثل سيل الندى. وفهمتُ أن ذلك مقصود لمنع تدفق المياه بغزارة بحيث تؤذي النمل الذي يمكن أن يعلو المغسلة! هذا ليس عبادة، وإنما هو احترام لحق الحيوان في الحياة. ويعمد رهبان هذه الجماعة إلى وضع حاجز من البلاستيك حول أفواههم حتى إذا تكلموا، فإن قوة الهواء المتدفق من أفواههم لا تؤذي الحيوانات المجهرية في فضاء المساحة الضيّقة بين المتحدثين! ولعل السؤال الكبير هو: كيف يمكن تفسير سلوك الحيوانات المتوحشة في الغابات والصحاري الواسعة؟
تكشف محاولة الإجابة عن هذا السؤال جانباً آخر من جوانب مشاعر الرحمة حتى لدى هذه الحيوانات، فهي لا تقتل إلا عندما تجوع، ولا تقتل إلا لتأكل، أما القتل من أجل القتل فليس سلوكاً حيوانياً. ثم إن أنثى الأسد، اللبوة مثلاً، هي التي تبادر في معظم الحالات إلى مطاردة فريستها من أجل إطعام صغارها.
أما القتل من أجل القتل، أو الصيد من أجل الصيد، فليس من خصائص الحيوانات. يختلف الإنسان عن الحيوان في نجاح الإنسان في تجميع قصص حول تجاربه، ومن ثم تحويل هذه القصص إلى ثوابت اجتماعية وثقافية يقاتل من أجلها وبسببها، فيُقتل أو يَقتُل.. وهو ما لا تفعله الحيوانات. وهنا يكمن سرّ الواحد والنصف بالمائة في اختلاف الشفرة الوراثية بين الإنسان والقرد.. فسبحان الخلّاق العظيم.
*كاتب لبناني