في معظم الدول الغربية، كانت السلطات البلدية أو المحاكم ستتمكن من تسوية أزمة مثل تلك التي بدأت العام الماضي، عندما أمرت شرطة باريس بالإزالة المؤقتة لمئات من أكشاك الكتب الأثرية التي ظلت قائمة على نهر السين لقرون عدة، وهو إجراء أمني قبل استضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، حيث سيتجمع 300 ألف متفرج على ضفاف النهر لحضور حفل الافتتاح يوم 26 يوليو. لكن الرئيس إيمانويل ماكرون أنهى ذلك النزاع المحلي، إذ أمر في فبراير الماضي ببقاء أكشاك الكتب.

واستفاد ماكرون، الذي تولى منصبه في عام 2017 بعد أن أنشأ حركته الخاصة وتغلب على أحزاب الوسط التقليدية في فرنسا، استفادة كاملة مما أسماه صلاحيات الرئاسة الفرنسية، والتي تشمل الحق في حل البرلمان والدعوة لإجراء انتخابات تشريعية جديدة إذا أراد ذلك. ومع ذلك، عندما قرر ماكرون قبل ثلاثة أسابيع الدعوة إلى انتخابات مبكرة، فقد جعل معظم وزراء حكومته وأقرب مساعديه في حالة ذهول وغضب.وبدأت الانتخابات التي تُجري على جولتين، أولاهما كانت الأحد الماضي وثانيتهما اليوم (الأحد) برفض واسع النطاق للكتلة الوسطية التي يتزعمها ماكرون وبزيادة مذهلة في دعم اليمين القومي المتشدد المناهض للمهاجرين.

وقد تسفر عن هذه الانتخابات عن برلمان منقسم بين معسكرين متصارعين من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهو ما سيُحدث حالةً من الشلل خلال السنوات الثلاث المتبقية من ولاية ماكرون الأخيرة. ومن المتصور أن تتمخض الانتخابات أيضاً عن أغلبية لـ«حزب التجمع الوطني» القومي بزعامة مارين لوبان، وهو ما قد ينسف مشروع التكامل الأوروبي الذي دام عقوداً من الزمن، وهذه أكبر هدية تحلم بها روسيا. وفي أي من السيناريوهين، سيكون ماكرون قد أضعف نفسَه بشكل كبير، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزبه قد يخسر ثلثي مقاعده البرلمانية.

وسيكن ذلك أمراً محيراً بالنسبة لرجل لا يزال شاباً يتمتع بمواهب استثنائية في الاستراتيجية والخطابة والوضوح، وكثيراً ما كانت أحكامه وحلوله المقترحة بشأن القضايا الكبرى صائبةً.. لكن أثبتت إخفاقاته في بعض القضايا أنها كانت قاتلة.وقد تسارع تراجعه المذهل في الشهر الماضي عندما دعا إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وهو رد غير ضروري على الهزيمة التي مُني بها حزبه في انتخابات أقل أهمية بكثير للبرلمان الأوروبي.

وكالمعتاد، فإنه لم يستشر أحداً باستثناء حلقة ضيقة من المستشارين، تاركاً حتى رئيس وزرائه الذي يتمتع بشعبية كبيرة، غابرييل أتال، في حيرة. وعلى الفور تقريباً، ومع توقعات استطلاعات الرأي بكارثة يمكن التنبؤ بها، كان حجم الخطأ واضحاً. «الناس لا يريدون سياساتك»، هذا ما قاله له نائب سابق من حزبه، وقد دعاه إلى قراءة الوضع السياسي بعد يومين من دعوته لإجراء انتخابات جديدة.

واقتناعاً منه بقدراته على الإقناع، أطلق ماكرون (46 عاماً) العنان لعاصفة من البيانات والتسجيلات الصوتية والخطب والتعليقات التي تهدف إلى تبرير قراره والتحذير من التصويت للتطرف، وقال إن «الحرب الأهلية» هي إحدى النتائج المحتملة. لكن العديد من الفرنسيين سئموا من سماع الخطابات البركانية، ومن بعض الصياغات اللغوية المراوغة التي أصبحت علامة مميزة لمرحلة السنوات الأخيرة. وتتفاقم هذه المشكلة بفِعل نظرة قطاع كبير من الناخبين الفرنسيين، الذين ينفرون من السياسي المتسلط والمتعالي والمتغطرس، والنخبوي غير المطلع على مشاكل الناس العاديين.

وعلاوة على ذلك يُنظر إلى سياسات ماكرون أيضاً على نطاق واسع على أنها غير فعالة وغير ثابتة، وهو تصور عمّقه من خلال التحول إلى اليمين، حيث فقد جزءاً من قاعدته عندما دفع بقانون صارم لمكافحة الهجرة وتبنى إجراءات لتعزيز الوطنية وقيم الجمهورية في وقت مبكر من هذا العام.

إن الأفكار التي يعتز بها ماكرون، مثل تحرير الأسواق لإطلاق العنان للاقتصاد، وتشكيل أوروبا الموحدة القوية القادرة على موازنة القوة الروسية والصينية والتحوط ضد الولايات المتحدة المتقلبة.. أفكار سليمة على المستوى الاستراتيجي، لكنها بعيدة عن الاهتمامات اليومية لكثير من الفرنسيين. وهذه الاهتمامات على وجه التحديد -بما في ذلك القوة الشرائية والرعاية الصحية والجريمة- هي التي لم يستطع ماكرون تحقيقها، كما يرى البعض. وبينما نجح خلال العام الماضي في فرض إجراء لرفع سن التقاعد الوطني إلى 64 عاماً، وهو أقرب إلى السن في الدول المتقدمة الأخرى، فقد فعل ذلك على الرغم من افتقاره للأغلبية التشريعية.

وقد عزز ذلك صورة الرئيس الراعي الذي يحتل مركز الصدارة، دون أن يستطيع بناء حركة سياسية قابلة للبقاء بعد فترة ولايته الرئاسية التي تنتهي في عام 2027. وإذ منح الناخبون الفرنسيون الأغلبيةَ البرلمانية لليمين المتشدد، وبالتالي تمكينه من تشكيل الحكومة، فمن شأن ذلك إبقاء ماكرون في منصبه، لكن دون أن يمتلك القدرَ الكافي من السلطة والحضور.

لي هوكستارد*

* كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية - باريس

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»