تحدثتُ ذات مرة في هذه الصفحة عن خيار الليبرالية المحافظة كبديل ملائم لأوضاع المجتمعات العربية المعاصرة، التي اختبرت من قبل المقاربات الوضعية والتاريخانية التي تلتبس عادة بأيديولوجيا التقدم في مقوماته الفكرية والاجتماعية.
وتركزت هذه المقاربة حول اتجاهين: التحديث التقني والمؤسسي الذي اعتمدته التجارب النهضوية الأولى في العالم العربي من منطلق قيم «التمدن» والاندماج في «الحضارة الكونية»، والثورة الراديكالية التي تبنّتها التياراتُ القومية واليسارية التي هيمنت مطولاً على الجمهوريات العسكرية العربية. واستندت تلك المقاربة في وجهيها على حداثة التنوير الجذري التي تنزع إلى القطيعة مع الماضي وإعادة بناء الإنسان والمجتمعات وتعويض الموروث الثقافي بالمنطق العلمي الوضعي والتقنية التجريبية.
وما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن هذه المقاربة تَغذت مِن رافدين تنويريين هما: التنوير الاسكتلندي في خلفياته التجريبية ومنظوره للدولة السيادية المطلقة، والتنوير الفرنسي في نزعته الانفصالية القوية وتصوره العقلاني التاريخاني.
لقد غابت عن الفكر العربي المعاصر جوانبٌ أساسيةٌ مِن حركية الحداثة في أبعادها الثقافية والمجتمعية، تركّزت في الفلسفات التي تدخل في ما يمكن أن نطلق عليه التقليد الليبرالي المحافظ. ويمكن أن نرجع هذا التقليد إلى مفكرَين رائدَين من وجوه التنوير الأوروبي، هما الفيلسوفان الألماني كانط والجنيفي (نسبةً لمدينة جنيف) جان جاك روسو.
لقد وقف الفيلسوفان المذكوران ضد النزعات الانفصالية القطائعية والاتجاهات الفردية الانكفائية، من منطلقات تأويلية اتصالية تستند للنص الديني والمرجعية التراثية في بناء عقلانية متجذرة في المرجعية الثقافية والقيمية العميقة للمجتمع.
وتواصل هذا الاتجاه في فكر ثلاثة من الفلاسفة الألمان الذين انتقلوا ما بين الحربين العالميتين إلى الولايات المتحدة وأثروا بقوة في حقلها السياسي والفكري: حنة أرندت وليو شتراوس وأريك فوجلين. ما يجمع بين الفلاسفة الثلاثة على اختلاف فكرهم هو النقد الجذري لتركة الحداثة القطائعية في أبعادها الوضعية والتاريخانية والفردية.
وهكذا بينت حنة ارندت أن هذه التصورات تطرح فكرةً عقيمةً للحرية من حيث هي انكفاء مستحيل على الذات، أي مجرد إرادة فارغة مقطوعة عن الفعل الذي يقتضي بناءَ عالم مشترك هو بالضرورة سياق ثقافي واجتماعي متصل يتم من خلاله التحديث والتجديد دون وهم مسح الطاولة الذي تتغذى منه الأيديولوجيات التسلطية الاستبدادية من اليعقوبية الثورية الفرنسية إلى الفاشستية والستالينية الراهنتين. أما شتراوس فقد طرح خيار العودة للتنوير الوسيط الذي يحتفظ بثنائية العقل والنقل (أثينا والقدس)، ويرى في السياسة تدبيراً أخلاقياً للمجموعة المدنية كما نظر إليها الفارابي وابن ميمون بدلا من اعتبارها إدارةً تقنية لجهاز وضعي فارغ من القيم والمعايير العادلة.
بينما اعتبَر فوجلين أن مصدر الخطر في النزعات الحداثية الراديكالية يكمن في محاولة فرض الوعود الروحية المطلقة في عالم محايث عن طريق الدولة التي اعتبرت منذ هوبز «إلهاً مكتملَ السيادة والقوة».
لقد أدى هذا التصور إلى الأيديولوجيات السلطوية القمعية رغم محورية أفكار الحرية والعقلنة الإنسانية في هذه المقاربة التحديثية. وما تزال أفكار الفلاسفة الثلاثة محدودةً في الخطاب العربي المعاصر، رغم الاهتمام الواسع بها حالياً في الساحة الغربية، التي تشهد منذ عقود مراجعات مستمرة لتجارب الحداثة والتنوير الراديكالي. وفي الوضع العربي الراهن الذي نعيش فيه تحللَ الكيان السياسي للدولة في مناطق عديدة بعد إخفاق موجات «الربيع العربي»، نحتاج إلى وقفة عميقة لإعادة تصور مشروع التحديث العربي المتعطل.
وفي هذا الباب نطرح خيار الليبرالية المحافظة، المتصالحة مع التقليد والتراث ومع الدولة المتجذرة في الأرضية المجتمعية والحاملة لقيم العدالة والرعاية والإنصاف. في نموذج الليبرالية المحافظة، ينظر للدين من حيث هو القاعدة العميقة للقيم الجماعية والهوية المشتركة، ومن ثم مكانه المحوري في المجال العمومي، ما يبعده عن التوظيف الأيديولوجي والاستغلال السياسي ضد الدولة الوطنية.
وفي هذا النموذج يتأسس الإجماع الوطني على معايير قيمية متقاسمة ورصيد تاريخي عميق، وليس على مجرد التعاقد القانوني المدني الهش. كما لا تشكل المقاييس الوضعية والتاريخانية رؤيةً للعالم تتأسس على تعنيف الطبيعة والسيطرة عليها، بل ينطلق من مقاربة منفتحة على نظام الوجود الحي في دلالته الواسعة التي ينتمي إليها الإنسان. ليس الأساس في الليبرالية المحافظة شكل النظام السياسي للدولة، بل من المهم أيضاً إبداع الآليات المؤسسية الضامنة لقيم الحرية والعدالة والمساواة وكرامة الإنسان من حيث هي القيم المرجعية الثابتة في النسق الليبرالي في تجلياته المختلفة.
* أكاديمي موريتاني