تتميز سياسة التعليم العالي في أغلب بلادنا الخليجية بارتكازها على ثلاثة محاور: أولها محور «توفير فرص التعليم العالي»، الذي يتأتّى عن طريق ضمان وجود مقعد دراسي لكل طالب مستوفٍ شروطَ القبول في الجامعات، مصحوباً بتوفير تخصصات متنوعة تُلبي احتياجات الدولة من الكوادر الوطنية وتُرضي ميول الطلبة الدراسين ورغباتهم.

وأمّا المحور الثاني فيُركِّز على «جودة التعليم الذي تقدمه هذه الجامعات»، إذ قامت الجهات المسؤولة عن التعليم العالي بوضع معايير عالمية تضمن رِفعة جودة التعليم المُقدَّم في هذه الجامعات وتَوافُقَه مع أعلى المعايير العالمية، فأولَت هذه الجهات اهتماماً تكون بموجبه الاعتمادات العالمية للبرامج والتخصصات من أهم المؤشرات عند تقييم الجامعات، كما حثّت على دخول الجامعات الوطنية في التصنيف العالمي للجامعات، الذي له أن يُسهِّل معرفة مركزها بين الجامعات العالمية من جهة، ويُساعد إدارَتَها على وضع خطط واستراتيجيات تتيح لها الارتقاء في التصنيف العالمي من جهة أخرى.

وعند الانتقال إلى المحور الثالث -وهو موضوع هذا المقال- نراه يتمثل في «الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار»، ولذلك سعت الجامعات إلى إنشاء مراكز للعلوم والابتكار تستهدف جَسرَ الهوة بين البحوث النظرية وتطبيقاتها.

وفي عالم يشهد تغيرات متسارعة ومستمرة في تقنيات الإنتاج وأنماط العمل، يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه الجامعات في كيفية بناء علاقة تشاركية وتكاملية بين القطاعين الأكاديمي والصناعي، ما يُسهم في إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات. ولا يقتصر التعاون بين الأكاديميا والصناعة على تحسين الفرص الوظيفية للخريجين فحسب، بل هو عنصر حاسم كذلك في تطوير البحوث والابتكار، وتعزيز اقتصاد المعرفة.

ومن هذا المنطلق نرى أن القطاعين الأكاديمي والصناعي ينصهران في بوتقة علاقة تكاملية تغذي الابتكار والتقدم الاقتصادي، إذ توفر الجامعات البحوث التأسيسية، والقوى العاملة الماهرة، المصمَّمة خصيصاً لتلبية احتياجات الصناعة، من خلال البرامج المتخصصة والتدريب العملي. كما تقدم الصناعات بدورها مشكلات واقعية للبحث الأكاديمي لمعالجتها، وتمويل المشروعات، وفرصاً للطلاب لاكتساب الخبرة العملية. ويؤدي هذا التعاون إلى التقدم التكنولوجي، وحل المشكلات بكفاءة، وتطوير منتجات وخدمات جديدة. ومن خلال العمل معاً يعمل كلا القطاعين على تعزيز قدراتهما، ودفع النمو، وتشجيع الابتكار، وإعداد الخريجين لمهن ناجحة، ومن ثمَّ ضمان المنافع المتبادلة والمجتمعية.

وفي هذا السياق تبرز مراكز الابتكار، أو ما يسمى في الجامعات بـ «منتزهات العلوم والابتكار» بصفتها بيئات مثالية لردم الفجوة بين النظرية الأكاديمية والتطبيق العملي، خاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، ولتقريب المسافة بين الأكاديميا من جهة والصناعة والاقتصاد من جهة أخرى، ولتقوم بدورها في الإسهام بزيادة براءات الاختراع، ودعم المشروعات الناشئة لمبادرات الشباب المبتكرة من الطلبة الجامعيين. وتُعَد منتزهات الابتكار في الجامعات، التي تُعرف أيضاً بالحاضنات التكنولوجية أو المراكز البحثية، بيئات خصبة لتطوير الأفكار الجديدة والمشروعات الريادية التي تجمع بين البحث الأكاديمي وتطبيقاته العملية.

ومع ذلك تواجه هذه المنتزهات مجموعة من التحديات التي يمكن أن تؤثر في فاعليتها ونجاحها، ولعل أهم هذه التحديات يتمثّل في التمويل والمرونة التنظيمية، اللذين يتطلبان تفكيراً استراتيجيّاً وتدخلات مبتكرة لضمان التكامل الفعّال بين التعلم الأكاديمي والممارسة الصناعية، فلم يَعُد من المقبول أن تعمل الجامعات في جزر معزولة عن متطلبات الصناعة الفعلية. بل على العكس، يجب أن تكون المؤسسات التعليمية في قلب الحراك الصناعي، تسهم فيه وتستفيد منه، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال استراتيجية تعليمية متكاملة وتفاعل إيجابي بين الأكاديميا والصناعة.

وكثيراً ما يُنظر إلى البحوث الأكاديمية بأنها مجردة وبعيدة عن التطبيقات العملية التي تتطلبها الأسواق والصناعات، إذ تُعزز هذه القطيعة الانطباع بأن الجامعات تعيش في «برج عاجي»، غير مكترثة بالحاجات العملية للصناعة، لذا يكمن التحدي الرئيسي الذي يواجه الجامعات، وخاصة منتزهات الابتكار، في تحويل المفاهيم والنظريات الأكاديمية إلى حلول وابتكارات تجارية قابلة للتنفيذ.

د.علي سعيد الكعبي

مستشار في جامعة الإمارات العربية المتحدة.