خلال السنوات الأولى من هذا القرن، أخذ الرأي العام في بريطانيا ينتقد بشكل متزايد قواعد وسلوك وموقف الاتحاد الأوروبي الذي كانت المملكة المتحدة جزءاً منه. فاتُهم البيروقراطيون في بروكسل بالتدخل في كل جانب من جوانب الحياة البريطانية، بما في ذلك، كما تقول الشائعات، المكوّنات المسموح باستخدامها لإنتاج نقانق اللحم الشهيرة في البلاد، والمعروفة بـ«النقانق البريطانية». 
كانت الحدود المفتوحة بين كل دول الاتحاد الأوروبي تعني زيادة الهجرة إلى بريطانيا وصرخة الشعبويين بأن «الأجانب» يستولون على الوظائف البريطانية. ودعت مناقشاتٌ لا نهاية لها في البرلمان البريطاني إلى إصلاحات في بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، وبدأ عدد متزايد من أعضاء البرلمان المحافظين يدعون إلى إجراء استفتاء وطني من أجل تقرير ما إن كان ينبغي لبريطانيا البقاء في الاتحاد الأوروبي أم الخروج منه. وبلغت هذه الدعوةُ أوجَها في 20 يونيو 2016، حينما أجري استفتاءٌ وطني فاز فيه الراغبون في الخروج بنسبة 52 في المئة مقابل 48 في المئة للراغبين في البقاء.
وفي الأخير، اختُتمت المفاوضات حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 31 يناير 2020، لتصبح مرة أخرى «دولة مستقلة»، لكن مع حفاظها على علاقات اقتصادية وأمنية وثيقة مع أوروبا. ويرى بعض المراقبين أن المشاعر التي أفضت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عكسها في الولايات المتحدة دونالد ترامب في فوزه الشعبوي غير المتوقع بالبيت الأبيض في نوفمبر 2016. وهناك بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي راودتها أيضاً فكرة أن تحذو حذو بريطانيا، غير أنه حتى الآن لم تسرْ أيٌ منها على ذلك الطريق. 
كل خمس سنوات، يصوّت مواطنو دول الاتحاد الأوروبي على مَن يجب أن يمثّلهم في البرلمان الأوروبي الذي يُعد إحدى المؤسسات الرئيسة التي تشرّع القوانين للاتحاد. وهذا العام، تُشير نتائجُ انتخابات الأسبوع الماضي إلى أن موجة جديدة من الشعبوية قد وصلت إلى القارة. فقد رفض الناخبون بشدة الأحزابَ الأكثر تقدميةً في البرلمان، وخاصة الخضر. وكانت النتائج مقلقة بشكل خاص بالنسبة لفرنسا وألمانيا اللتين تعدان أكبر دولتين في القارة. وتشير نتائج الانتخابات إلى تفشي الغضب بشأن الهجرة غير الشرعية والجريمة وقوانين المناخ المثيرة للانقسام وجهود تعزيز التعددية الثقافية، وإلى أن هذه القضايا لها صدى متزايد بين السكان. ويذكر هنا أن هذه القضايا هي أيضاً القضايا التي يشدّد عليها الحزب الجمهوري، ودونالد ترامب في حملة الانتخابات الأميركية.
غير أن الواقع ليس بالبساطة التي يبدو عليها. فالانتخابات الوطنية الأخيرة في كل بلد أوروبي على حدة أسفرت عن نتائج متباينة. إذ شهدت انتخابات 2023 في بولندا هزيمةَ الحكومة اليمينية، وفوز أحزاب يسار الوسط. ومن جانبها، ستشهد بريطانيا انتخابات عامة في 4 يوليو. وتتوقع كل استطلاعات الرأي فوزاً كبيراً لحزب العمال الذي ظل خارج السلطة طوال 14 عاماً. إذ من المتوقع أن يفوز حزب العمال تحت قيادة زعيمه كير ستارمر بأغلبية كبيرة بما يكفي ليحكم دون الحاجة إلى تشكيل ائتلاف، وهو ما سيمكّن الحزب من تمرير تشريعات إصلاحية للتعامل مع بعض من أخطر مشاكل بريطانيا، بما في ذلك الهجرة، والرعاية الصحية، والتفاوت في الدخل، والجريمة. لكن ستارمر ليس راديكالياً. فقد طهّر الحزبَ من بعض أعضائه الأكثر تطرفاً، بمن فيهم الزعيم السابق للحزب جيريمي كوربين الذي هُزم بشكل حاسم في انتخابات 2019 على يد بوريس جونسون.
وختاماً، فإن الشعبوية تزدهر حينما تشعر قطاعاتٌ كبيرة من المجتمع بالخوف من أن رفاهيتها باتت في خطر، ومن أن مؤسسات المجتمع تخذلها، ومن أن الأجانب يستولون على وظائفها.. على أن غضبها وإحباطها سيزداد ويتضاعف إذا كان الاقتصاد في حالة ركود وكانوا يواجهون مستويات مرتفعة من التضخم، مما يعني ارتفاع الأسعار في متاجر البقالة ومحطات الوقود. والأكيد أن هذه المؤشرات الإحصائية ستكون حاسمة في تحديد ما إن كان الدعم للحركات الشعبوية سيزداد في القادم من الشهور.

*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز ناشيونال إنترست - واشنطن