أول حاسة تتكوّن لدى الإنسان هي حاسة اللمس. إنها الحاسة الأساسية للحياة، وهي تساوي من حيث الأهمية الماء والغذاء. إنها أول حاسة تتكون مع اكتمال الجنين في رحم أمه.
يستطيع الإنسان أن يعيش فاقداً حاسةَ البصر مثلاً، أو حاسة السمع، لكن اللمس ضروري لكل جوانب الحياة. لا يستطيع الإنسان أن يمشي إذا فقد هذه الحاسة، ولا يستطيع أن يشعر بالألم من دونها.. إنها الأداة التي تمكّنه من خوض غمار الحياة بكل تفاصيلها.
لذا فإن أشد أنواع العقاب هو ذلك الذي يجرّد الإنسان من حاسة اللمس. وفي الهند مثلاً هناك طبقة المنبوذين الذين يَحرُم لمسهم أو قبول أي شيء يلمسونه. ويعتبر السجن الانفرادي أشد أنواع العقوبات، لأنه يحرم السجين من أن يلمس أحداً، أو أن يشعر بلمسة من أحد.
لا يدرك الإنسانُ أهمية حاسة اللمس إلا عندما يفقدها، أو يُمنع من اللجوء إليها (كما حدث أثناء جائحة «كوفيد-19»). فالإنسان يحتاج إلى حاسة اللمس لإقامة علاقاته الاجتماعية مع الآخرين. لقد عاش الإنسانُ البدائي الحياةَ المشتركةَ والجماعيةَ من خلال هذه الحاسة، كما يؤكد علماء الاجتماع.
لقد تطوّر الجهاز العصبي لدى الإنسان، بحيث يتجاوب مع حاسة اللمس. وهي حاسة تطوّرت أيضاً لدى الحيوانات. يقول علماء النفس الفيسيولوجي، إن اللمسَ يحرّك عصباً موجوداً في الجلد مرتبط بالدماغ، حيث يضيء الخلايا المرتبطة بمشاعر السعادة، ويطلق مجموعةً من الهرمونات التي تبعث على الارتياح.
لا أحد يدرك ماذا يعني الحرمان من اللمس أكثر من الأم التي تضع مولوداً قبل اكتمال النمو، وتضطر للنظر إليه من وراء حاجز زجاجي، وهو في حاضنة العناية المركزة، وقد كان منذ وقت قليل جزءاً من كيانها. وأول ما يفعله طبيب التوليد بعد الإشراف على ولادة جرت في وقتها الطبيعي هو أن يسمح للأم بحمل مولودها ولو لدقائق.
وقد أُجريت دراسةٌ إحصائية أكدت أن الأطفال المولودين حديثاً، والذين تحتضنهم أمهاتهم بعد الولادة مباشرةً، يُقبلون على الرضاعة الطبيعية من ثدي الأم بنسبة تزيد على 36 بالمائة، مقارنةً بالأطفال الآخرين. وبيّنت الدراسةُ ذاتُها أن هؤلاء الأطفال يتمتعون بعد احتضان الأم لهم مباشرةً بعمل القلب والرئتين بصورة أفضل وأسرع. وأن نسبة السكر في دمائهم تكون أعلى من الأطفال الآخرين.
من عجائب ما خلقه الله تعالى في جسم الإنسان، نظام التكامل بين الأعضاء من خلال ما أودعه الخالق، جلَّ وعلا في المخ من آلية للتحفيز أو لردّ الفعل. من ذلك مثلاً أن حاسة اللمس لدى الإنسان تحفّز على إنتاج هورمون يُعرف علمياً باسم «كورتيزول» مقاوم لمشاعر الاضطراب والقلق والضغوط النفسية. كما أن هذا الهورمون يتصدى للخلايا القاتلة من خلال تحفيز ودعم عمل الخلايا البيضاء في الدم المقاومة للبكتيريا والفيروسات التي تجد طريقَها إلى داخل جسم الإنسان.
وقد أوضحتْ دراسةٌ طبيّة نفسانية أُجريت في مؤسسة كارنيجي الأميركية للأبحاث والدراسات، أن الأشخاص الذين يمارسون عادات العناق مع الأهل والأصدقاء غالباً ما يكونون أقل عرضةً لأمراض الإنفلونزا والالتهابات الرئوية. وشرحت الدراسةُ أسبابَ ذلك، مؤكِّدةً أن اللمس والعناق المحفّز على إنتاج الكورتيزول يوفّر للإنسان الشعورَ بأنه محل عناية واهتمام، مما يقويه على المرض فيَسلم منه.
ومن هنا، فالعناية ليست تعبيراً عاطفياً أو إنسانياً فقط، ولكنها أداة فعّالة للمعالجة الدفاعية المسبقة التي تقطع الطريقَ أمام المرض للتسلّل إلى خلايا الجسم الداخلية.
في كتاب عنوانه «اللمس»، للدكتور دافيد ليندن أستاذ علوم الأعصاب في جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة، يؤكد المؤلف أن انعدام اللمس يؤدي إلى العنف وإلى العدوانية. ويسجّل المؤلف ملاحظة مهمة عندما يقارن بين الشباب الأميركيين وأقرانهم الفرنسيين، قائلاً، إن الأميركيين أشد ميلاً للعنف، لأنهم أقل حظاً من الفرنسيين في ممارسة العناق واللمس.
ولذا فإن الافتقار للمس يؤدي إلى أمراض الشعور بالوحدة والانعزال، وربما إلى الاضطراب وحتى إلى الانهيار النفسي.. وقد يصل في حالات التطرف إلى نقص المناعة، ما يعطّل عمل جهاز الدفاع الذاتي في التركيبة التي خلقها الله في جسم الإنسان.
ومع ذلك، فإنه مقابل كل مائة بحث علمي حول حاسة البصر مثلاً، هناك بحث واحد حول حاسة اللمس. وخلال العصور الوسطى في أوروبا اعتُبر اللمسُ نقيصةً اجتماعية، كما وصف المؤرخ الاجتماعي كونستانس كلاسن. واعتُمد هذا الوصفُ في بريطانيا، خلال عهد الملكة فكتوريا التي عُرف عنها أنها لم تكن تسمح لطبيب بلمسها لفحصها إلى أن توفيت.
لكن لماذا الاهتمام اليوم باللمس؟ الجوابُ عند الأدوات والأجهزة الإلكترونية وشاشات اللمس فيها، والتي أصبح الاعتماد عليها في التواصل يُغني عن العلاقات الإنسانية والمباشرة.
*كاتب لبناني