السياسة لم تُخلق لجائع.. تُلخِّص هذه العبارة إطار العمل السياسي، فعلى الإنسان أن يشبع من الطعام أولاً، ثم نبحث الأمر بعد ذلك.
لقد كان الصراع الإنساني في كل التاريخ - إلاّ قليلاً - يتعلق بالحرب على الموارد: الغذاء والماء ثم الموارد الأخرى وصولاً إلى اليورانيوم وأشباه الموصلات، وهي كلها موارد محدودة تتسم بالندرة.
المعضلة الكبرى والبسيطة التي يمكن أن يفكِّر بها طفل كما يفكِّر بها فيلسوف: كيف وصل الإنسان إلى هذا التقدم الأسطوري، غواصات في أعماق البحار، ومدن عائمة على سطح الماء، ومركبات تجاوزت المجموعة الشمسية، ودخلتْ عالم الأبد.. بينما لا تجد أعدادٌ هائلة من البشر قوت يومها، كيف يتوازى في عالم واحد.. أنْ يبدع البعض على وقع «الأوتوثانية»، ويخطط البعض لمدّ عمر الإنسان إلى المائتين، ويعكف آخرون على تخطيط مدينة في المريخ.. فيما يعاني ملياران ونصف المليار إنسان من انعدام الأمن الغذائي!
إن الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة هو إلغاء الجوع في العالم بحلول عام 2030، ولكن العالم الخالي من الجوع بات بعيد المنال.
ليس الجوع وحده، بل العطش أيضاً، فمن سوء حظ البشر أن المياه التي تغطي (70%) من مساحة الأرض، لا تتجاوز نسبة المياه الصالحة للشرب فيها (2.5%)، والمتاح بالفعل لا يتجاوز (1%).
قبل أكثر من عقدين حضرتُ مؤتمر الأمم المتحدة للمياه في لاهاي، وتحدث البعض عن «خصخصة الأنهار»، وتحدث آخرون عن دراسة جدوى مائية لاختيار المحاصيل، وهو ما يُعبِّر عنه مصطلح «البصمة المائية» الذي صكّه البروفيسور «أرين هوكسترا».
حسب «البصمة المائية»، فإن زراعة قطن لإنتاج بنطلون جينز واحد يتكلف (10) آلاف لتر مياه، ويتكلف إنتاج (1) كجم شيكولاتة إلى (17) ألف لتر، كما يحتاج (1) كجم من حبوب قهوة الاسبرسو إلى (19) ألف لتر. بينما يحتاج (1) كجم من الجزر والطماطم إلى (200) لتر فقط.
في ظل ندرة الموارد.. أصبح الماء هو الذهب السائل، وحسب قول «كاميلا هاريس» نائبة الرئيس الأميركي: «لقد حارب العالم لسنوات من أجل النفط، والآن سيحارب من أجل المياه».
ثمّة مفاجأة نظرية كبرى في هذا السياق، إذْ نشر الفيلسوف السويدي «نك بوستروم» الأستاذ في جامعة أكسفورد كتابه الجديد بعنوان «اليوتوبيا العميقة» وفيه يقدم أطروحة نهاية الندرة، ونشأة عالم ما بعد الندرة، حيث ستتوافر الحاجات البيولوجية للجميع.
يدعم «بوستروم» نبوءة الاقتصادي الشهير «جون ماينارد كينز» بأن البشرية في طريقها لحلّ المعضلة الاقتصادية القائمة على فكرة الندرة. نشر كينز نبوءته عام 1930 في مقالة بعنوان «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا»، وتوقع نهاية أزمة الندرة عام 2030، وكفاية الإنتاج للحاجات، حتى إن ساعات العمل ستصل إلى (15) ساعة أسبوعياً.
إن «بوستروم» فيلسوف جادّ، وقد امتدح بيل جيتس وإيلون ماسك كتابه السابق «الذكاء الخارق» ودعوا لقراءته، والفيلسوف واثق تماماً مما يقول.
كم يتمنى المرء لو صدق «كينز» و«بوستروم»، فسوف تكون نهاية عصر الجوع أعظم ما فعل الإنسان منذ هبط إلى الأرض. ولكن المفارقة الطريفة في هذا الإطار.. أنه إذا كانت السياسة لم تخلق لجائع، فإن الاقتصاد لم يخلق لشبعان، فقد نشأ علم الاقتصاد لإدارة الموارد المحدودة، فما عساه أن يفعل في زمن الوفرة، وفي عالم بلا ندرة؟!
*كاتب مصري