بدأ المؤرخون وعلماء الاجتماع والسياسة في التبحر في معرفة العوامل الثقافية التي تتسبب في التأثيرات السلبية على الهوية الوطنية نتيجة لتدفق موجات الثقافات الأخرى إلى داخل دول مجلس التعاون الخليجي في العقود الأخيرة فقط. هذا المجال كان في السابق حكراً على علماء الأجناس أو الإنثروبولوجيين أكثر من غيرهم من علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث كانوا هم وحدهم تقريباً الذين يخوضون في البحث والتقصي فيها بصورة أكبر من غيرهم.
كانت النتيجة ليست مجرد الانتشار الحالي لفكرة وجود مخاطر سطحية على أنماط الحياة اليومية المعتادة لمواطني الدول المستقبلة، لكن بوجود مخاطر جسيمة على الهويات الوطنية الثقافية ذاتها. مثل هذه النتيجة لم يتم التوصل إليها من قبل باحثين ومفكرين وكتاب رأي من دول مجلس التعاون الخليجي وحدهم، ولكن من قبل باحثين أجانب أيضاً بحيث إنها شاعت عبر أعمال نشرها مؤرخون وعلماء اجتماع وسياسة، وامتدت إلى أنواع عديدة من تاريخ تداخل وتقاطع ثقافات أجنبية عدة مع الثقافة العربية، بما في ذلك تاريخ وجهات نظر لأناس من ثقافات تمكنت من اختراق الحواجز للتأثير على الثقافة العربية في عقر دارها.
إن سلسلة المقالات التي نخوض فيها الآن هي حول ردود الأفعال الآتية من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي على المقولات المطروحة التي يقول جانب منها بوجود مخاطر جسيمة، والأخرى التي تقول بعدم وجودها على الهوية الوطنية. لكن الردود ليست متركزة على الجوانب السياسية وبما يرتبط بها من الجوانب الأخرى، ولكن هي ردود فعل فكرية وثقافية.
إن ردود الأفعال تأتي في صيغ متعددة ومختلفة، وبسبب كون الجوانب التاريخية الخاصة بالأفكار تعتبر حقلاً واسعاً جداً، فهي مهتمة بشكل مناسب بأطروحات من شأنها القول بوجود تأثيرات سلبية على المجتمعات الخليجية تؤدي إلى تغييرها وتقضي على ثقافتها الأصلية والتراث الإنساني العريق لها. هذا يتضمن العواطف الفياضة للمواطنين العاديين مثلما يتضمن الأطروحات الرسمية الواقعية الأكثر تحديداً ومصداقية.
ما مضى من حديث في هذه المقالات استكشف طروحات محددة حول وجود مخاطر على الهوية الوطنية آتية من الخارج. لذلك، فإن النظرة تأتي من زاوية الطروحات الفكرية الثقافية والسياسية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية بشكل جماعي تكاملي، عوضاً عن التركيز أو الانشغال بأية واحدة منها كحالة مفردة. الطروحات الشعبية بوجود المخاطر قائمة، فشعوب دول المجلس كغيرها من الشعوب حريصة في الحفاظ على هويتها وتراثها وثقافتها من التأثيرات الخارجية عليها.
ولدى هذه الشعوب تقييمها للبشر عن طريق تصنيفهم نتيجة للاحتكاك بهم، وعليه فهم يصنفونهم وفقاً لترتيبهم في مصفوفات يضعونها جنباً إلى جنب، وفي الوقت نفسه هم يقومون أيضاً بشرح ذلك لأنفسهم سعياً وراء إيجاد مخارج لحماية أنفسهم من التأثيرات السلبية للمسألة. جميع هذه التفاعلات تحدث في الدول الست وهي تنظر إلى ذاتها بأنها دول وطنية وليست أمماً بالمعنى الذي يتم التعامل به لمنظور الدولة والأمة في الغرب. وبالعودة إلى صلب الموضوع من زاوية النظر إلى المسألة في دولة الإمارات والخلاف حول ما إذا كان هناك خطر على الهوية الوطنية من عدمه، فإن دولة الإمارات مثال حي لفكرة الدولة الوطنية الحديثة قوية الإرادة، وتشعر بكونها دولة تنتمي إلى أمة هي العربية- الإسلامية.
وبغض النظر عن المفاهيم الشعبية للأرض التي تكونها ويعيش شعبها عليها من حيث إطلاقهم عليها مسميات الدولة أو البلاد أو الديرة أو الوطن هم لا يطلقون عليها مسمى الأمة. لذلك فإن المصطلحات المتكررة في الأدبيات الرسمية والاستخدامات الشعبية الدارجة لا تتوافق مع التعريف العربي لمصطلح أمة، بل هي دولة يقطنها شعب عربي ينتمي إلى الأمة العربية- الإسلامية الجامعة. يقول كتاب غربيون بأن مصطلح أمة كما أورده بنديكيت أندرسون يعيد الولاء للعروبة والإسلام! وهذا طرح عجيب ومحير، لكن المهم هو أن الاستخدام العربي لمصطلح «أمة» لا يدل على دولة أو وطن أو بلاد أو ديرة كما يستخدمه الغربيون أو تلاميذهم العرب، فهو يدل على الأمة العربية- الإسلامية في مجملها. إن استخدام المصطلحات لدى العرب ذو انعكاسات تتسم بالدقة غير العادية.
* كاتب إماراتي