في ظل التطور التقني المتسارع الذي يشهده عالم اليوم، والتغيرات المستمرة في طبيعة المعاملات المالية، ظهرت أنواع جديدة من النقود يُطلَق عليها «العملات الرقمية المشفرة» (Cryptocurrency)، وهي عملات لا وجود ماديّاً وملموساً لها مثل العملات التقليدية، ولكنها تسمح بإجراء معاملات مالية فورية عبر الإنترنت من دون الخضوع لرقابة سلطة مالية مركزية، ما يضاعف مخاطر هذا النوع من العملات على الأمن المالي للأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء.
وعلى الرغم من التقلبات الشديدة في قيمة العملات المشفرة يوميّاً، فقد ازدادت وتيرة استخدامها في مختلف دول العالم، وأصبحت أمراً واقعاً ينبغي للحكومات أن تتعامل معه عبر فرض قوانين وتشريعات مناسبة لتنظيمها، وتقليص الممارسات السلبية الناتجة من استخدامها.
وفي الواقع، عند البحث عن كلمة (Cryptocurrency) في محرك البحث (Google)، تتصدر نتائج البحث عبارات تخص الجرائم المتعلقة بالعملات الرقمية المشفرة، مثل (Cryptocurrency Crime Cases)، ما يشير إلى مدى ارتباط المستخدم الجديد للعملات الرقمية المشفرة بعالم الجريمة، ودفع ذلك كثيراً من دول العالم إلى إصدار تحذيرات بشأن المخاطر التي تواجه مستخدمي هذه العملات، مثل غسْل الأموال، وتمويل الأنشطة الإرهابية.
وفي حين تُعد «بيتكوين» (Bitcoin) العملة المشفرة الأكثر شيوعاً، فإن هناك عددا لا حصر له من العملات الرقمية البديلة (Altcoins) التي تسعى إلى تقديم مزايا مختلفة، وتلبية مجموعة متنوعة من الاحتياجات والأغراض.
وقد تنبَّهت منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) إلى التصاعد الكبير في استخدام العملات الرقمية المشفرة والبديلة، في إطار مساعيها إلى مكافحة الجريمة السيبرانية والإلكترونية بصورة عامة، وبذلت جهودًا حثيثة لمكافحة الجرائم المرتبطة بها.
وعلى سبيل المثال أطلق تحالف مؤلف من 15 عضوًا، في عام 2017، مشروعاً جديداً تحت اسم (TITANIUM) بهدف منع المجرمين من استخدام تقنية «بلوك تشين» (Blockchain) بطريقة مخالفة للقانون، مع الحرص على احترام خصوصية المستخدمين الذين يستخدمونها بشكل قانوني. ونفَّذ التحالف المشروع الذي استمر ثلاثة أعوام، وبلغت قيمته خمسة ملايين يورو بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وتمثّل أبرز أهدافه في تطوير حلول تقنية فعَّالة لتقليل الجرائم والأنشطة الإرهابية المرتبطة بالعملات الافتراضية ومعاملات الأسواق السرية.
كما أعلنت منظمة الإنتربول، في عام 2022، تأسيس فريق خاص في سنغافورة لمساعدة حكومات دول العالم على تعزيز جهودها الرامية إلى مكافحة الجرائم التي تشمل الأصول الافتراضية.
وفي السياق نفسه يهدف مشروع تنمية القدرات السيبرانية في منظمة الإنتربول (C3DP)، الذي دخل في مرحلته الثالثة حاليّاً، إلى تعزيز قدرات الدول الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) على مكافحة الجرائم السيبرانية، وتعزيز الحوارات الاستراتيجية الإقليمية، وتحسين تبادل المعلومات بين جميع الدول الأعضاء العشر في الرابطة.
وفي إطار هذا المشروع أطلقت المنظمة دليلاً خاصّاً لمصادرة الأصول الافتراضية، ومنها العملات المشفرة، وتهدف هذه الإرشادات إلى تعزيز فهم الأصول الافتراضية وتقنية بلوك تشين في التحقيقات الجنائية، وتوفير قوالب موحدة لمصادرة الأصول الافتراضية، وضمان الامتثال للوائح، وزيادة الوعي بالمخاطر ذات الصلة.
وقد أصدرت منظمة الإنتربول العام الجاري (2024) تقريرها الخاص بتقييم الاحتيال المالي العالمي، الذي سلط الضوء على دور الاستخدام المتزايد للتقنيات الحديثة في تمكين الشبكات الإجرامية المنظمة من استهداف الضحايا في مختلف أنحاء العالم.
وتهدف الجهود والمبادرات المستمرة، التي تطلقها منظمة الإنتربول بالتعاون مع كثير من الحكومات والجهات العالمية المتخصصة، إلى توفير إطار متين يتيح للأفراد والمجتمعات على حدّ سواء إجراء المعاملات المالية بطريقة آمنة وقانونية بعيداً عن الجريمة السيبرانية بجميع أشكالها.
وقد أصبح من الأهمية بمكان في العصر الرقمي الحالي وجود وعي كامل لطبيعة استخدام العملات المشفرة، والمخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها، مع التشديد في الوقت نفسه على أهمية تضافر الجهود لاستخلاص الفوائد والمزايا المحتمَلة للعملات المشفرة، ولا سيَّما أن كل تقنية جديدة تحمل معها عددًا من الجوانب الإيجابية والسلبية التي تنبغي دراستها بعناية، بهدف اعتماد أفضل الممارسات التي تعود بالنفع والفائدة على أمن الأفراد والمجتمعات، وسلامتهم.
*مفتش عام وزارة الداخلية ورئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول)