إن معظم، إن لم يكن كل الأشياء التي تحيط بنا لا بد من وجود تعريف يمثلها، فحين نتفوه بأي مصطلح نجد أن تعريفه يكون من خلال الصورة التي تنعكس في أذهاننا حين نتخيله حتى وإن لم نقم بتعريفه الإجرائي واللغوي وما إلى ذلك. وفي السياق ذاته، فهناك العديد من المفهومات التي لا بد من الإمعان فيها عند محاولة النظر في القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان والتي تعتبر المعرفة إحداها، حيث إنه وبالرغم من أن علاقة الإنسان بالطبيعة المادية التي تحيط به، والبحث في هدفه من الوجود، والنضال الإنساني العريض الذي يحاول الوصول لحل مشكلة المعيارية وتحديد مصدرها، فإن الأسئلة العميقة كافة التي يمكن طرحها في كل من هذه السياقات يصب في صلب معرفة معينة، لكن ما تزال ملامح تلك المعرفة غير واضحة بشكل كامل.
وبمعنى آخر، فإن التحديات والتحولات كافة التي يمر بها المجتمع الإنساني فوق هذه البسيطة والجغرافية الممتدة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، لا تنفك عن حاجتها الملحة في الاستزادة المعرفية أو الاستمرار من تلك النقطة التي تضع التحديات عندها. وبذلك يمكن القول، إن الاستشرافات التي وضعها الإنسان قبل جائحة «كورونا»، على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن مقارنتها بالرؤى المستقبلية المطورة ذات الأدوات الأكثر تمكناً ومرونة التي وضعها بعد مروره بهذه «الجائحة» وما فرضته من إملاءات قاسية اضطرته؛ لأن يتكيف معها رغماً عنه. وفي السياق ذاته، فإن الأطر كافة التي تحيط بعملية التطوير أو الارتقاء بالمنظومة المعرفية لا بد أن تظل بحاجة للتحديث والتنقيح في أسس لطالما سار عليها الإنسان، لا سيما تلك التي انطلقت من مبدأ «هذا ما وجدنا عليه آباءنا»، وبالتالي فإن الحاجة تتحقق عندما نجد منهجيةً واضحة تستطيع التعرف إلى ماهية المعرفة التي يسعى الإنسان للإبحار في غمارها، وفي الوقت ذاته يجعل من العقل الإنساني أكثر جرأة في اختياراته ضِمن هذا السياق، وبخاصة أن الإنسان اعتاد الخلط بين المعرفي وغيره في الكثير من المجالات التي يجد فيها مساحة معينة من العمومية. وبمعنى آخر، فإن الأخلاقيات -مثلاً- التي تنعكس سلوكاً رحيماً ولطيفاً على المجتمع مثل مساعدة الفقراء وغيرها من الأنشطة الخيرية تعتبر مهمة وحيوية في رفض الحاجة الإنسانية، لكنها لا تمت للمعرفة بصلة.
إننا لا نحاول أن نعزل المعرفة أو أن نحيطها بهالة من القدسية المغشوشة، بل نحاول السير بمنهجية واضحة بعيداً عن الخلط المفاهيمي والتشوش الإدراكي الذي أدى إلى الكثير من الجدليات الفكرية والفلسفية.
ومن ذلك، فالحديث عن إنتاج معرفي يتطلب تجاوز المحاولات الأولى التي كانت السبب في انبثاق المعرفة الحقيقية، مع ضرورة اعتمادها على مصادر تعد عصباً رئيسياً في الوصول لبناء معرفي رصين، وذلك بالاستفادة من الجمع بين المعلومات المكتسبة من البيئة التقليدية القريبة من جهة، وبين ما يكتسبه الإنسان من بيئته الخارجية من جهة أخرى، ويضاف إلى ذلك ما استنتجه من أفكار نابعة من تمعنه، والاستفادة من المكتسبات والمهارات المضافة من مصدر رئيسي هو الوحي، وصولاً لتحقيق هدف البناء المعرفي الشامل.
وعليه، فلا غنى معرفياً عن النظر في طبيعة ما يرد أمامنا من معلومات وتحكيمها من خلال ميزات المعرفة التي اتفق معظم المفكرين عليها، فتأتي بدلالة واضحة ودقيقة وموثوقة ومدعمة بالأدلة، ومستقلة في بنائها وتشكيلها، بحيث يكون النتاج نقياً من أي اصطفافات أو أيديولوجيات، وبالتالي فالأمر يتعلق بمعرفة قابلة للتصديق والاعتماد. ومن هنا، نجد أننا بتنا أقرب إلى توصيف المادة المعرفية، وعدم الخلط بينها وبين المعلومات الأولية أو حتى معطيات مراحل مخاض وولادة المعرفة الإنسانية.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة