نعيش عصراً يتسم بالتطور المندفع ناحية المستقبل بمعدل تسارع عالٍ، تتلاقى فيه التكنولوجيا والابتكار كقاطرة تقود البشرية نحو غد مختلف عن اليوم، وقد يصل إلى حد التباين في مراحله المتقدمة، فكل شيء أصبح الآن مآله إلى التغير الحتمي، وأظن أنه لا يوجد شيء من مكونات الحياة البشرية محمي من هذا التغير.
مع هذا التسارع والتغيير أصبحت الشهادات الأكاديمية ليست مجرد نهاية مرحلة التعليم وبدء مرحلة اكتساب الخبرات العملية كما هو الحال قبل عشرات السنين، بل صارت الشهادة الأكاديمية مجرد نقطة انطلاق نحو اكتساب المعرفة والتعلم إلى جوار الخبرة.
وبدأ العصر الحديث يتجاوزها في اتجاه تَبني مفهوم التعلم المستمر كأسلوب حياة وأداة مستمرة في التقدم والتطور والبناء عليه في تحقيق الأهداف الفردية في النمو والنجاح المهني المتسق مع معطيات العصر الحديث.
قد يظن البعض أن التعلم المستمر هو اكتساب للمعارف والمهارات تحت وصاية المعايير الأكاديمية، وهذا الظن وعي منقوص، لأنه يشتمل أيضاً على تطوير القدرات والمهارات الفردية، والتي لا نجدها في القاعات الأكاديمية، بل نكتسبها من خلال رحلة بحث ذاتية في بناء وعي متكامل بالقدرات الفردية وتطويرها وتنظيمها بالصورة الفاعلة التي تخدم المسيرة الحياتية للإنسان، سواء في الحياة الخاصة، أو في الحياة المهنية، فهما عنصران متكاملان يحققان معاً رحلة نجاح الإنسان داخل منظومة المجتمع.
سنوات طويلة كان للمؤهلات الأكاديمية الدور الرئيسي في تقييم النجاح والمستقبل المهني للفرد، وظل هذا التركيز المفرط يقلل من شأن التطوير المعرفي والمهني للأفراد، ويضع مفهوم التعلم المستمر في مكانة متأخرة، وظلت هذه النظرة الضيقة عقبة أمام التقدير الكامل لقدرات وإمكانات الفرد.
قبل عامين تقريباً أعلنت ولاية ميريلاند الأميركية إلغاء شرط الشهادة الجامعية في نحو 50% من المناصب المهنية، مما يشير إلى أننا نقف على أعتاب تغير يضع المهارة في مقدمة متطلبات العمل. كما أشارت دراسة نشرتها مؤسسة «ماكينزي» إلى أن ممارسات التوظيف القائمة على المهارات توفر حلاً فعالاً لمواجهة التحديات في سوق العمل الحديث، وتعتمد تنمية المهارات الفردية على التطور، مما يجعل التعلم المستمر أمراً حيوياً لمواكبة هذا التطور. وأشارت دراسة أخرى لصندوق النقد الدولي صدرت في شهر يناير 2024، إلى أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر في نحو 40% من الوظائف حول العالم، فيحل محل بعضها، ويكمل بعضها الآخر، وذلك يُخفض من حجم التخوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي على سوق العمل بصورة شبه شاملة، حيث أدركنا أننا لسنا أمام حالة «إبادة» مهنية، لكنها مرحلة تغير وتحول تتطلب من المجتمع البشري وضع قواعد وضوابط تقنن استخدام القدرات الهائلة للذكاء الاصطناعي على نحو آمن بما يفيد الإنسانية، ومن أبرز هذه الآليات قطعاً هي التنمية المعرفية والمهارية للأفراد من خلال التطور المهني والمعرفي عبر التعلم المستمر.
ومما سبق ندرك أن التعلم المستمر ليس مجرد خيار، بل صار تطوراً حتمياً يُفرض على الأفراد بشكل عام، خاصة مع تحولات أحدثها الذكاء الاصطناعي وتُظهر لنا في الأفق العديد من التحديات، ومعها أيضاً العديد من الفرص الجديدة. والتعلم المستمر يعتبر حجر زاوية في التكيف مع هذه التحولات والحفاظ على الوجود المهني داخل سوق العمل.
*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي