أنهى هجوم اليابان على القاعدة البحرية الأميركية في «بيرل هاربور» في السابع من ديسمبر عام 1941، نفوذَ اللجنة الأميركية الأولى التي قامت بحملة لإبقاء الولايات المتحدة خارج الحرب العالمية الثانية. وبحلول نهاية الحرب عام 1945، كانت أميركا هي القوة العالمية المهيمنة. كان أكثر من 16 مليون أميركي يخدمون في القوات المسلحة، وقد طورت الولاياتُ المتحدة القنبلةَ الذرية واستخدمتها ضد اليابان، وكان الاقتصاد الأميركي يمثل 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكانت الولايات المتحدة تمتلك 80% من العملات الصعبة في العالم، علاوةً على كونها مصدراً صافياً للنفط.
واليوم تظل الولايات المتحدة القوة العسكرية المهيمنة وما زالت تفتخر بأكبر اقتصاد. لكن اقتصاد الصين وقدراتها العسكرية من الممكن أن تتفوق على الولايات المتحدة في غضون عقد من الزمان، أو قبل ذلك، بسبب بعض الانتكاسات المحلية الخطيرة. ولا تزال الولايات المتحدة تقود تحالفات كبرى في كل من أوروبا وآسيا، لكن بعض الأميركيين يتساءلون عن ما إذا كان هذا الانتشار العالمي يمثل مصلحةً أميركية حيوية.
في عام 2014، عندما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم، ألقى «الجمهوريون» باللوم على الرئيس باراك أوباما في رد فعله الضعيف على هذا التصرف. وفي فبراير 2022، تضمنت «العملية العسكرية الخاصة» التي نفذتها روسيا في أوكرانيا هجوماً مباشراً على كييف. لكن هذه المرة قوبل الهجوم بعقوبات أشد صرامة. وفي ذلك الوقت، حظيت تصرفات الرئيس بايدن بدعم واسع النطاق من الحزبين.
لكن القصة مختلفة اليوم، فمع تزايد سيطرة دونالد ترامب على الحزب الجمهوري، أصبح الجمهوريون الآن منقسمين حول ما إذا كان عليهم الاستمرار في تقديم مستويات عالية من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لأوكرانيا. وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، رفض مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون التصويتَ على مشروع قانون أقره أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، من الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي»، والذي يسمح بتقديم مساعدات بقيمة 66 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان، بالإضافة إلى قوات حرس الحدود الأميركية.
ويزعم «الانعزاليون الجدد» في الحزب الجمهوري أن الأولويات الأمنية للولايات المتحدة تقع في الداخل، وخاصة الفوضى على الحدود المكسيكية والأعداد التي لا نهاية لها من الأشخاص الذين يطلبون اللجوء في الولايات المتحدة، ويدّعي كثير منهم أنهم يفرون من القمع في بلدانهم، بينما أغلبهم يريدون فقط حياةً أفضل لعائلاتهم. وقد أصبحت الهجرة غير الشرعية قضيةً مثيرةً للجدل، إذ يعتقد الجمهوريون أنها تعمل لصالحهم، لكن موقف «الانعزاليين الجدد» يتجاوز قضايا الهجرة، فهم يدعمون بشكل متزايد مواقف ترامب غير الإيجابية تجاه حلف «الناتو»، وكذلك موقفه تجاه روسيا. وهم يزعمون أن الولايات المتحدة، من خلال فرض العقوبات على روسيا ودعم أوكرانيا، تساعد في دفع روسيا إلى تحالف استراتيجي أوثق مع الصين. وهذا لأن الصين، وليس روسيا، هي التهديد الأكثر خطورة للولايات المتحدة، كما يرى الانعزاليون الجدد!
يتفق العديد من الأميركيين على أن الصين تمثل منافساً وتهديداً على المدى الطويل لمكانة الولايات المتحدة، لكنهم يقولون إن الفشل في دعم «الناتو» والحلفاء الأوروبيين، وعدم مواجهة التحركات الروسية.. كل ذلك يبعث برسالة خاطئة إلى الصين. ومن المرجح أن يزيد ذلك من استعداد الصين لاستخدام القوة للسيطرة على تايوان.
والدولة الوحيدة التي ما زال الانعزاليون الجدد يريدون دعمها بمساعدات عسكرية كبيرة هي إسرائيل. وهم يشيرون إلى الانقسامات المريرة في الحزب الديمقراطي بشأن الحرب في غزة كسبب يجعل من الواجب على اليهود الأميركيين التصويتَ لصالح ترامب بدلاً من بايدن. والمفارقة هنا هي أن بعض أشد أنصار إسرائيل حماساً من الجمهوريين يعتقدون أيضاً أن الولايات المتحدة لابد أن تكون مستعدة لخوض حرب مع إيران لأنها تبدو عازمة على التحول إلى قوة مهيمنة إقليمية وسيكون لديها قريباً برنامج تشغيلي للأسلحة النووية.
ويقول المنتقدون إن جر الولايات المتحدة إلى صراع مع إيران بسبب إسرائيل سيكون بمثابة كارثة للولايات المتحدة والمنطقة، ولن يساعد المعارضة الداخلية المتزايدة للنظام الإيراني. ويذكر أن إيران لديها اقتصاد ضعيف وتواجه تحديات بيئية خطيرة بسبب نقص المياه الناجم عن الجفاف وقضايا الإدارة والتسيير.
وتلوح في الأفق أوكرانيا وإسرائيل وإيران، مع دخول الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة أشهرها الأخيرة. وكيفية استجابة أميركا للأزمات المستمرة ستكون لها تداعيات عالمية يتردد صداها لسنوات عديدة.
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشونال انترست» - واشنطن