من أجل فهم ماهية البنية التحتية، تنصحنا المهندسة ديب تشاشرا بتأمل رحلة الذهاب إلى العمل. فالمرء يقود سيارته على شبكة من الطرق، أو يركب نظام نقل هو جزء من نظام عام أكبر، أو يعمد بكل بساطة إلى فصل الاتصال بشبكة الاتصال عبر إطفاء حاسوبه. ومع حلول المساء، يضيء الأنوار التي تستمد طاقتها من الشبكة الكهربائية. ويطبخ العشاء باستخدام الغاز المنقول عبر الأنابيب من شبكة أخرى، ويشرب الماء من الصنبور الذي ليس سوى نقطة واحدة من بين نقاط كثيرة على شبكة واسعة لمياه تقطع مئات الكيلومترات أحياناً قبل أن تصل إليه.
وكما تشرح تشاشرا في كتابها القيّم «كيف تعمل البنية التحتية.. داخل الأنظمة التي تشكّل عالمنا»، فنحن نعيش حياة الرفاهية دون أن ندرك ذلك. ذلك أن كل أعمال جمع الوقود والمياه الشاقة يتم التكفل بها بشكل غير مرئي، كما أننا نستطيع قطع مسافات طويلة، على الطريق أو عبر «الإنترنت»، في وقت قصير جداً. والهدية العظمى للبنية التحتية هي أنها تتيح لنا أدوات للتحكم في حياتنا، فتحرّرنا من الكدح اليومي. وتلفت تشاشرا إلى أن الوصول إلى الشبكة أضحى حقاً سياسياً لدرجة أن العديد من الحكومات المحلية ما عادت تسمح بقطع التدفئة والمياه عن العملاء حتى حينما يعجزون عن تسديد فواتيرهم.
المشكلة هي أنه عندما تشتغل بنيتنا التحتية بشكل طبيعي ومثلما هو متوقع منها، لا نفكر فيها أبدا. فنحن لا نصوّت على بنيتنا التحتية كل عامين، ولا نكرّم عمال خدمات المياه والكهرباء، باعتبارهم حراساً لحياتنا مثلما نفعل مع المستجيبين الأوائل. كما أننا نغفل عن أهمية صيانتها والعناية بها، مما يؤدي أحياناً إلى كوارث مثل انهيار الجسور وانقطاع التيار الكهربائي وفيضانات السدود المحتقنة بالمياه. لكن مع تغير المناخ الذي بات يهدد العديد من المدن والبلدات عبر العالم، فإن كل هذا يجب أن يتغير وبسرعة.
كتاب «كيف تعمل البنية التحتية»، الذي كُتب بأسلوب رشيق وجذاب، يجمع بين تاريخ الهندسة والعلوم وحكايات طريفة تحكيها تشاشرا عن السفر إلى محطات الطاقة والمدن عبر العالم. قراءته أشبه بالتنزه مع صديق يعرف معنى وقصة كل زاوية من زوايا الشارع: أنابيب الصرف الصحي المدفونة تحت الأرض، أو علامات معدنية عمرها قرن من الزمن تركها عمالُ «المسح الجيولوجي الأميركي»، أو كابلات كهربائية مدفونة. لكن هذا الكتاب ليس دليلا من جنس الكتب التي تشرح للقارئ كيف تشتغل الأشياء، وإنما دفاع عاطفي عن الضرورة السياسية لبنية تحتية فعّالة.
وفي هذا الصدد، تدعو تشاشرا القراء إلى إعادة النظر في البنية التحتية وتقديرها من جديد باعتبارها مشروعا اجتماعياً جماعياً يوحّدنا، لكنه يظل معرّضاً لخطر الانهيار بسبب الإهمال وعدم الاهتمام.
تشاشرا تقول إن الناس يتصورون البنية التحتية في كثير من الأحيان على شكل ما تسمّيه بنى تحتية عملاقة تبهر الناظرين: مشاريع ضخمة على غرار سد هوفر أو شلالات نياجارا ومحطاتها الكهرومائية. وتكتب عن مثالها المفضل، وهو محطة للطاقة الكهرومائية تعمل بالضخ والتخزين في ويلز وتعرف باسم «الجبل الكهربائي». هذه المحطة بُنيت داخل جبل مجوّف، وتولّد الطاقة حينما يفتح العمال صمّاماً أسفل بحيرة في قمة الجبل. ويتم تصريف المياه عبر أنبوب عمودي، فتتهاطل على التوربينات لتوليد الطاقة، ثم تتدفق إلى بحيرة في السفح. وفي الليل، عندما تنخفض احتياجات المجتمع المحلي من الطاقة، تدور التوربينات بشكل عكسي، دافعةً المياه إلى القمة مرة أخرى. وبذلك تكون أشبه ببطارية عملاقة متجددة ذاتياً، وقد بُنيت لتبدو جميلة، إذ إنها مخبأة تحت منحدرات عشبية في إحدى الحدائق العامة. الجبل الكهربائي مثال جيد لما قد يبدو عليه توليد الطاقة في عالم أكثر استدامةً، عالم قائم على الطاقة المتجددة. غير أن الابتعاد عن الوقود الأحفوري ليس سوى خطوة واحدة من جملة خطوات ينبغي اتخاذها من أجل خلق عالم أكثر استدامة، وفقاً لتشاشرا التي تنتقل لإبراز التباين بين «جبل الكهرباء» وشلالات نياجارا التي يخفي جمالُها تاريخاً مزعجاً. ذلك أنه من أجل بناء خزّان محطة توليد الكهرباء هناك، لجأت الحكومة الأميركية إلى حق نزع الملكية باسم المنفعة العامة فاستولت على ثلث الأراضي التي كانت قد منحتها لشعب توسكارورا (قبيلة من سكان أميركا الشمالية الأصليين) بموجب معاهدة. ورغم أن البنية التحتية تمثّل منفعة عامة، إلا أنه لا يستفيد منها الجميع وليس على قدم المساواة، كما أنها غالباً ما تأتي على حساب فئات مهمشة.وبينما يتناقش الأميركيون حول كيفية تجديد أنظمة المياه القديمة والمتهالكة في البلاد، تشدد تشاتشرا على ضرورة إنشاء أنظمة جديدة من أجل خدمة أوسع جمهور ممكن. لكنها تحذّر من أنه لا يمكن إنشاء أنظمة تزوّد المدن الغنية بالمياه عبر تدمير المناطق التي يعيش فيها «جيراننا الأقل قوة» أو تلويثها. كما تقترح أن تكون الشبكات الكهربائية المستقبلية محلية إلى حد كبير، وقادرة على الاتصال بالشبكة الوطنية الأكبر أو الانفصال عنها حسب الحاجة بحيث لا تكون هناك نقاط فشل مركزية. كما دعت إلى أن تكون لكل مجتمع محلي نسخته المصغرة من «جبل الكهرباء»، نسخة تكون مصممة لاستغلال أي طاقة متجددة تناسبه، سواء أكانت ريحية أو شمسية أو مائية أو حرارية.
محمد وقيف
الكتاب: كيف تعمل البنية التحتية.. داخل الأنظمة التي تشكّل عالمنا
المؤلفة: ديب تشاشرا
الناشر: ريفرهيد بوكس
تاريخ النشر: أكتوبر 2023