يُعد توافر الخدمات الصحية الشاملة والمستدامة معياراً حيويّاً لتقييم تقدُّم الأمم، وضمان جودة الحياة. وتقف الحكومات في شتى دول العالم أمام مفترق طرق حاسم في اختيار أنظمة الرعاية الصحية الخاصة بها: هل تختار نظام الدفع الفردي الذي يتميز بالتمويل والإدارة المباشرة من الحكومة أو تختار نظام الرعاية الشاملة الذي يُموَّل بمزيج من التأمين الحكومي والخاص، وغير ذلك من المصادر؟ علماً أن كلّاً من هذين الخيارَين ينطوي على مزاياه الخاصة، وتحدياته المعقدة. ويقارن هذا المقال بين نماذج تقديم الخدمات الصحية المتنوعة، ويؤكد أهمية استفادة كل دولة من تجارب الدول الأخرى لتطوير نظام صحي يحقق التوازن بين طموحات الحكومات وحاجات المواطنين، مع الأخذ في الحسبان الاختلافات الكبيرة في السياقات السياسية والاقتصادية والديمغرافية التي تجعل من الصعب تطبيق نموذج واحد يلائم جميع الدول.
ويتطلَّب فَهْم التباين بين نظامَي الدفع الفردي والرعاية الشاملة التفريق بينهما بصفتهما مفهومين متمايزين يمتزجان في التطبيق العملي؛ إذ يُعبّر كل منهما عن استراتيجية مختلفة لتوفير الرعاية الصحية وإدارتها. ويتبنَّى نظام الرعاية الشاملة نهجاً يركز على الكفاءة والابتكار، ويوفر مرونة كبيرة للمستفيدين في اختيار مقدمي الخدمات الصحية والخطط التأمينية، ويدعمه تمويل متنوع من الضرائب والتأمينات الخاصة والعامة. ويتيح هذا النظام فرصة للمنافسة بين شركات التأمين ومزودي الخدمات الصحية؛ ما يسهم في تحسين جودة الخدمات، وتشجيع الابتكار. ومن جهة أخرى يعتمد نظام الدفع الفردي على مصدر تمويل واحد -يتمثل في الحكومة عادةً- لتغطية تكاليف الرعاية الصحية المقدمة إلى أفراد المجتمع؛ ما يؤدي إلى تيسير التمويل والإدارة الصحية، ويُمكّن الجميع من الوصول العادل والشامل. وبرغم ذلك قد يواجِه هذا النظام تحديات مثل مدَّة الانتظار الطويلة، والقيود المالية التي تحُد من الابتكار في تقديم الخدمات.
وتختلف الدول في جودة الرعاية الصحية للأفراد؛ نتيجة التنوع في الأنظمة الصحية المُتبنَّاة، سواء القائمة على الدفع الفردي، أو الرعاية الشاملة. وتتبنى الحكومات في دول مثل المملكة المتحدة نظام الدفع الفردي؛ إذ تمول الحكومة الرعاية الصحية مباشرةً؛ ما يضمن توفير خدمات صحية لجميع المواطنين بتكلفة معقولة أو من دون تكلفة؛ فمثلًا تُدير هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة (NHS) الخدمات الصحية بفاعليَّة، وهي مموَّلة أساساً من الضرائب. وأما ألمانيا فتعتمد الرعاية الصحية فيها على نظام التأمين الإلزامي؛ إذ يُطلَب من الأفراد دفع أقساط تأمين تتناسب مع دخلهم، وتغطي الحكومة تكاليف الأفراد غير القادرين على الدفع. ويواجِه نظام التأمين الصحي الأميركي -الذي يتبع نهجاً خليطاً من التغطية الشاملة والدعم الحكومي- تحديات متنوعة تشمل ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وزيادة عدد الأشخاص غير المؤمَّن عليهم. وتنبع هذه التحديات من عوامل عدَّة، منها الهيكلية التنافسية لسوق التأمين الصحي، والسياسات التقييدية لشركات التأمين، والتكاليف الإدارية المرتفعة، وتعقيدات النظام الصحي. وعند النظر إلى منظومة تقديم الخدمات الصحية في دولة الإمارات العربية المتحدة يبرز السؤال الآتي: هل تواجِه الدولة تحديات مماثلة؟
يتميز نظام الخدمات الطبية في دولة الإمارات بتغطية واسعة، ونفاذ إلى خدمات ذات جودة عالية. ويبدو أن الدولة، التي تحولت من نظام الدفع الفردي المطلق إلى خليط من النظامين منذ أكثر من عقدين، تتجنب حتى الآن كثيراً من المشكلات الرئيسية. وفي المقابل تُعد دولة الإمارات من بين أعلى 20 دولة في العالم من حيث الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد، ويُظهِر هذا المستوى من الإنفاق تركيز الدولة على توفير رعاية صحية عالية الجودة لمواطنيها والمقيمين فيها؛ ولكنه -برغم ذلك- يؤكد الحاجة إلى تحليل أعمق لفاعليَّة الإنفاق، وإدارة الموارد في النظام الصحي؛ كما يستدعي اليقظة والتخطيط الاستراتيجي؛ لضمان ألا تواجه دولة الإمارات تحديات مستقبلًا.
وينبغي لصانعي السياسة الصحية في دولة الإمارات العربية المتحدة العمل على تقليل التكاليف، وتحسين جودة الخدمات الصحية، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، وكذلك يجب السعي إلى تحقيق التوازن بين توفير التغطية الشاملة، والحفاظ على الاستدامة المالية؛ وهو هدف يمكن تحقيقه بالاستفادة من دروس الدول الأخرى وتجاربها، والتركيز على الابتكارات لتحقيق التميز المنشود في مجال الرعاية الصحية.
*مدير عام مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي بالإنابة