تجتاح العديدَ من البلدان الأوروبية في الآونة الأخيرة احتجاجاتٌ غاضبةٌ من قبل مزارعي هذه البلدان تعبيراً عن غضبهم من سياسات أُقرَّ بعضُها حمايةً للبيئة وبعضها الآخر لفرض مزيد من الأعباء المالية على المزارعين، وبعض ثالث لأسباب سياسية وبالذات تلك المتعلقة بدعم أوكرانيا. ومن هنا الاهتمام الدولي بهذه الاحتجاجات التي يمكن أن تُرد بدايتُها إلى النصف الثاني من العام قبل الماضي، حين تسببت خطةٌ حكومية هولندية لخفض انبعاثات النتروجين عن طريق فرض قيود على تربية المواشي في فقد آلاف المزارعين مصدرَ رزقهم، فقام هؤلاء باحتجاجات استخدموا فيها جراراتهم في قطع الطرق السريعة، كما نظموا مظاهرات غاضبة أمام منازل عدد من القيادات السياسية. ولقيت هذه الاحتجاجات تأييداً واسعاً من الأحزاب الشعبوية، وانعكس هذا في دخول قوي لحزب «حركة المواطنين المزارعين» إلى مجلس الشيوخ في انتخابات مارس 2023، وإن لم يحقق النتائج المتوقعة في انتخابات مجلس النواب في نوفمبر الماضي، حيث حصل على 7 مقاعد فقط من أصل 150 مقعداً. غير أن حركة احتجاجات المزارعين لم تقتصر على هولندا بل امتدت كذلك إلى بلدان أخرى عديدة مثل بولندا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وبلغاريا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة، وها هي الآن على أشُدها في فرنسا.
وتكتسب هذه الحركةُ أهميتَها الدوليةَ من عاملين أولهما تأثيرها المحتمل على تماسك الاتحاد الأوروبي، والثاني ارتباطها بالحرب في أوكرانيا. ومن ناحية تمثل هذه الحركة تحدياً للاتحاد اعترفت به رئيسة المفوضية الأوروبية، وأرجعت الاحتجاجات إلى عدد من الأسباب منها ما هو عالمي كتغير المناخ، ومنها ما هو أوروبي كالإفراط في القواعد التنظيمية داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، ومنها ما يتعلق بأسباب خارجية على نحو ما سيأتي ذكره. وتجري في هذا السياق محاولات من قِبَل المفوضية الأوروبية لإطلاق حوار استراتيجي بغية التوصل إلى رؤية مشتركة لتجاوز الأزمة، خاصة وأن انتخابات البرلمان الأوروبي على الأبواب في يونيو القادم، وقد واجه الاتحاد الأوروبي منذ نشأته أزماتٍ من هذا النوع، وبالذات في المجال الزراعي، خاصة عندما كانت مصالح أعضائه تتضارب. ولا ننسى تعارض المصالح بين المزارعين الفرنسيين والألمان عند إقرار السياسة الزراعية الأوروبية الموحدة، أو إقرار العملة الأوروبية الموحدة، لكن الاتحاد كان قادراً على الدوام، من خلال آلياته، على تجاوز هذه الأزمات، وإن كانت الصعوبات قد تزايدت عبر الزمن بسبب اتساع نطاق عضويته، وتباين مستويات النمو داخله.
أما السبب الخارجي فيعود إلى الحرب في أوكرانيا، ذلك أن الاتحاد الأوروبي كان قد علق في مايو 2022 الرسومَ الجمركية على وارداته من الحبوب الأوكرانية، مما تسبب في خفض أسعار المنتجات الزراعية الوطنية نظراً لمكانة أوكرانيا في إنتاج الحبوب، وأدى هذا إلى احتجاج مزارعي البلدان المتضررة الذين قاموا بمظاهرات واسعة، واستخدموا جراراتهم لإغلاق المعابر الحدودية مع أوكرانيا في البلدان المتاخمة لها جغرافيا. وكانت بولندا هي أكثر البلدان تضرراً، حيث وصل الأمر لاستقالة وزير زراعتها في أبريل الماضي، وإعلان الحكومة قبولَها سياسة تقديم إعانات للمزارعين. وهي المرة الثانية التي تتضرر فيها أوروبا من دعمها لأوكرانيا. وكانت الأولى متعلقة بزيادة تكلفة الطاقة نتيجة تزايد الاعتماد على الطاقة الأميركية الأغلى على حساب الطاقة الروسية الرخيصة. وهكذا فإن أزمة المزارعين الأوروبيين لا تهدد تماسك الاتحاد الأوروبي فحسب، وإنما تهدد كذلك بتناقص الدعم الأوروبي لأوكرانيا أيضاً.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة