في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان «بلد الأسلحة.. رأسمالية الأسلحة، والثقافة، والسيطرة، في أميركا الحرب الباردة»، يرصد أستاذ التاريخ بجامعة «لويزيانا تيك» الأميركية، آندرو ماكفيت، تحوّل الأسلحة من أسلحة مادية محسوسة إلى ذخيرة أيديولوجية، شارحاً بتفصيل كيف أضحت أميركا ليس مجرّد بلد مسلّح وإنما بلدَ أسلحة، وموطناً لـ«ما يناهز نصف الأسلحة النارية المملوكة للمدنيين في العالم» و«أكثر من ضعف نصيب الفرد من الأسلحة» مقارنة بأي دولة أخرى. وينطلق من فكرة أساسية مؤداها أن الأسلحة ليست أشياء مجردة وإنما منتجات.
وفي هذا الصدد، يكتب ماكفيت أنه لئن كنا «نجد صعوبة في النظر إلى الأسلحة في سياق الرأسمالية الاستهلاكية»، فذلك لأنها «تتعلق بالرجال والرجولة، في حين أن النزعة الاستهلاكية غالباً ما يُنظر إليها على أنها نشاط نسوي». فالصورة التقليدية تقتضي أن «الرجال ينتجون والنساء يستهلكن». في حين أن الأسلحة النارية، التي تُعد أدوات لنوع من أنواع الذكورة العدوانية، بات يُنظر إليها على أنها أقل ارتباطاً بالنزوات التافهة وأكثر ارتباطاً بمعدّات وأدوات الحماية والإعالة. إذ يقدّمها أنصارها باعتبارها «تمائم أو أحرازاً لحماية النفس والمجتمع من أشكال الشر المختلفة»، على حد تعبير ماكفيت، في حين ينظر إليها خصومها في كثير من الأحيان باعتبارها أعراضاً لمرض روحي. لكن الأكثر من 400 مليون قطعة سلاح ناري الموجودة في أميركا حقيقةٌ ماديةٌ، وفي كثير من الأحيان حقيقةٌ دمويةٌ.
لقد بدأت الأسلحة تتقاطر على أميركا بكميات غير مسبوقة عقب الحرب العالمية الثانية، أثناء عملية إنهاء تعبئة القوات العسكرية في العالم. وقتئذ «لم يكن لعشرات ملايين الأسلحة النارية في كل أنحاء العالم أي استخدام عملي، وكان الغبار يتراكم عليها في المخازن الحكومية»، كما يقول ماكفيت. وفي غضون ذلك، نجح بعض رواد الأعمال الأميركيين المغامرين في استيراد كميات كبيرة من الأسلحة المستعملة من الخارج، وفي مقدمتهم تاجر الأسلحة الشهير صامويل كامينغز. وقد تغاضت إدارة آيزنهاور عن تدفق هذه الأسلحة معتبرةً أن «تدفق مخزونات الأسلحة العالمية على الولايات المتحدة أفضل من أن ينتهي بها الأمر في أيدي المتمردين الشيوعيين حول العالم». ثم سرعان ما غزت الأسلحة النارية الأوروبية، التي كان حجمها يعادل «إنتاج نصف قرن من إراقة الدماء في القارة، سوقَ الولايات المتحدة بأسعار متدنية جداً».
وكما يقال فالعرض يخلق الطلبَ، إذ سرعان ما أيقظ كامينغز وأقرانه شهيةً لا تشبع. وكما يلفت إلى ذلك ماكفيت، فإن «مشتري الأسلحة النارية يميلون إلى أن يكونوا مشترين متسلسلين للأسلحة»، إن لم يكونوا من هواة جمع الأسلحة. وبحلول الوقت الذي أدرك فيه المسؤولون أنه قد يكون من الضروري وضع إطار قانوني جديد، كان الأوان قد فات، إذ انتشرت الأسلحة في كل مكان لدرجة أضحت معها «ثقافة السلاح» أمراً واقعاً.
في البداية، كانت تسوّق أسلحة كامينغز على أنها سلعٌ رياضيةٌ، لكن سرعان ما أصبح هذا الزعم غير قابل للتصديق بعد أن اكتسحت المسدسات السوق، وأثبتت أنها أكثر ملاءمة للعنف والوحشية بين الأشخاص منها للصيد والرياضة. لكن في ستينيات القرن الماضي، اتّبعت شركات تصنيع الأسلحة المحلية استراتيجيةً ذكيةً لسحق المستوردين الذين كانوا يزاحمونها في السوق. فبدعوى الحرص على السلامة العامة، حثّت هذه الشركات الكونجرس على حظر المسدسات اليدوية، والتي أصبحت لاحقاً مرادفاً لانحراف الأحداث، وكانت تُستورد من الخارج بالكامل تقريباً، على نحو يخدم مصلحة جماعات الضغط المحلية المدافعة عن الأسلحة. وبفعلها ذاك، دشّنت تقليداً أميركياً عريقاً يتمثل في إلباسِ اهتمامٍ اقتصادي خالص بالأسلحة النارية لبوس الوطنية. ونتيجة لذلك، انبرى الخبراء وصنّاع الأسلحة و«الرابطة الوطنية للبنادق»، التي اشتهرت بأصوليتها فيما يتعلق بالأسلحة النارية بكل أنواعها، لتحميل عمليات الاستيراد مسؤوليةَ تدفق المسدسات الرخيصة، وبالتالي ارتفاع معدلات الجريمة. لكن الفكرة لم تكن تتمثّل في عرقلة صناعة الأسلحة. بل على العكس من ذلك، إذ كان الهدف هو إعادة توجيه الصفقات والأعمال مرة أخرى إلى المصنّعين المحليين، مع الإبقاء على الأسلحة في أيدي الأميركيين «المستقيمين» (أو بعبارة أخرى: البِيض).
كانت المخاوف التي يشير إليها هؤلاء اللاعبون قد تحوّلت إلى انشغالات وطنية منذ مدة. وبينما استعرت الحرب الباردة في الخارج وهزّت حركة الحقوق المدنية المجتمع في الداخل، ظهر زعمٌ ثانٍ -أكثر نجاحاً- لثقافة السلاح، ألا وهو أن الأسلحة النارية تمثّل حصناً حصيناً ضد العديد من الأعداء الذين يهدّدون أميركا، كما يزعم المدافعون عن الأسلحة. فإذا كان الشيوعيون يحيكون المخططات في الخارج، فإن مثيري الشغب المتربّصين في الداخل كانوا يشكّلون تهديداً لا يقلّ خطورة، أو هكذا كان يبدو للعديد من الأميركيين الذين باتوا مركِّزين على الجريمة ويشعرون بخوف متزايد من الحقوق التي تمنح لمواطنيهم السود.
وبحلول منتصف الستينيات، كانت عبارة «معدلات الجريمة في ارتفاع» تتردّد على ألسنة الكثيرين. والحق أن الأرقام كانت ترتفع بالفعل، لكنها كانت تقدّم صورةً ناقصة غير كاملة. وهنا يلفت ماكفيت إلى أن المعدلات إنما كانت ترتفع لأن «الوكالات البلدية والولائية والفدرالية أصبحت أفضل في الإبلاغ عن الجرائم»، وليس بسبب ارتفاع عدد الجرائم بالضرورة.
غير أن هذه الحقيقة لم تمنع أصدقاء قِطاع الأسلحة وخصومه عل حدّ سواء من التوسّل بإحصاءات الجريمة لإثارة مشاعر خوف تخدم مصالحهم. فقد أشار السيناتور «الديمقراطي» توماس دود، الذي يُعد مهندس قانون السيطرة على الأسلحة الرائد لعام 1968، إلى «شبح الجريمة لتبرير قضائه أكثر من سبع سنوات في العمل على السيطرة على الأسلحة في الستينيات». لكن التشريع، الذي قيّد استيراد الأسلحة النارية دون أن يصعِّب الوصول إليها عملياً، كان محكوماً عليه بالفشل منذ البداية بسبب ثغرة تسمح باستيراد أجزاء الأسلحة. ولئن كان اغتيال روبرت كينيدي والقس مارتن لوثر كينغ جونيور في 1968 العاملين المباشرين اللذين عجّلا بإقرار قانون «دود»، فإن القانون كان كذلك نتاجاً لاستشراء العنصرية وجنون الارتياب.
ورغم ضعفها وعدم فعّاليتها، فإن هذه القوى لم تؤدِّ إلى السيطرة على الأسلحة فحسب، ولكن أيضاً إلى ظهور نوع جديد من التعصّب المؤيد للأسلحة النارية. فقد كان المحافظون يشعرون بالإهانة بسبب ما كانوا يعتبرونها احتجاجات مؤيّدة للشيوعية ضد حرب فيتنام، كما أن الانتفاضات الحضرية التي اندلعت في واشنطن وديترويت والعديد من المدن الأميركية الأخرى عقب مقتل كينغ أرعبت المحافظين البيض. فظهرت منظمات مثل «مينيوتمان»، وهي منظمة يمينية متطرفة «تسلّح نفسها استعداداً لكارثة مقبلة ضد الشيوعية العالمية». وفي ديترويت، ذهب سكان عنصريون إلى حد إنشاء «ما كان يمثّل في الواقع تنظيماتٍ شبه عسكرية» عاقدةً العزم على تسليح نفسها بغرض الدفاع عن رؤيتها الخاصة لأميركا.
«إن السؤال السوسيولوجي المتعلق بكيف تستطيع المجتمعات منع العنف المسلّح ليس لغزاً كبيراً»، كما يقول ماكفيت، فـ«عددٌ أقل من الأسلحة يعني عدداً أقل من الوفيات الناجمة عن الأسلحة». غير أن الأميركيين سمحوا لأنفسهم بتصوّر أن مشكلة الأسلحة النارية إنما «تعود إلى فكرة غامضة حول الإجرام، وإلى مجموعة من اللاعبين السيئين المقنّعين الذين يبحثون عن الأسلحة لأغراض شريرة»، وإلى أمراض الروح، وإلى التردي الاجتماعي. وبذا يكون الأميركيون قد استسلموا لرؤية «الرابطة الوطنية للبنادق» ومتطرفين آخرين للعالم، ولإصرارهم على تحويل ما يُعتبر في جوهره مادة عادية إلى أسطورة. وعن فشل «قانون مراقبة الأسلحة» لعام 1968 في الحدّ من العنف، كتب ماكفيت أن المشكلة لم تكن أبداً في عدد المجرمين وإنما في عدد الأسلحة، فقد كان «هناك عدد كبير جداً منها»، وما يزال هناك عدد كبير جداً منها.. فهل الأمر بهذه البساطة؟!
محمد وقيف
الكتاب: بلد الأسلحة.. رأسمالية الأسلحة، والثقافة، والسيطرة، في أميركا الحرب الباردة
المؤلف: آندرو ماكفيت
الناشر: ذي يونيفرستي أوف نورث كارولاينا برِس
تاريخ النشر: نوفمبر 2023
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»