التنبؤ بأفول الولايات المتحدة كان دائماً شائعاً ومنتشراً. ولم تتغير سوى هوية الدولة التي من المفترض أن تتفوق علينا، ففي الماضي كان الاتحاد السوفييتي، ثم صارت اليابان، والآن أضحت الصين. لكن رغم سنوات من الإخفاقات المكلفة جداً، من حربي العراق وأفغانستان إلى انهيار الأسواق المالية عام 2008 إلى التعامل المرتبك مع جائحة «كوفيد 19» إلى تمرد السادس من يناير 2021.. إلخ، ما زالت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالَم.
ولئن كنا ما زلنا مهووسين بالتهديدات الخارجية، وخاصة تلك الصادرة عن روسيا والصين، فإن التهديد الأكبر الذي نواجهه هو شللنا السياسي. وفي هذا الإطار، قال السيناتور «الجمهوري» دان سوليفان (عن ولاية ألاسكا)، في الأول من نوفمبر خلال محاولته الفاشلة لكسر قبضة السيناتور تومي توبرفيل («الجمهوري» عن ولاية ألاباما) على المرشحين العسكريين، قال: «إننا سننظر إلى هذه الحادثة وسنشعر بالذهول إزاء كيف أضحت مهمة انتحارية للأمن القومي». هذا التحذير ينطبق بشكل عام على الحياة السياسية الأميركية، ذلك أنه إذا دخلت القوة الأميركية في تراجع نهائي بالفعل، فإنه لا يمكننا لوم أحد غير أنفسنا.
صحيح أننا لم نعد مهيمنين على الصعيد الدولي كما كنا قبل 30 عاماً. غير أنه خلافاً للاعتقاد السائد، فإننا لسنا في حالة تقهقر. وما على المرء إلا النظر إلى أكبر أزمتين في عالم اليوم، أي غزة وأوكرانيا. فالولايات المتحدة ما زالت في المقدمة، وهي تتعاطى مع كلتيهما، إذ حشد الرئيس بايدن تحالفاً يضم أكثر من 50 دولة لدعم أوكرانيا، وبالتوازي مع ذلك انخرط في جهود دبلوماسية عاجلة ونشر القوةَ العسكرية الأميركية الكبيرة (بما في ذلك مجموعتان قتاليتان من حاملات الطائرات وغواصة تعمل بالطاقة النووية) في الشرق الأوسط في محاولة للحؤول دون خروج الصراع بين إسرائيل وحركة «حماس» في غزة عن نطاق السيطرة. وبذا تظل الولايات المتحدة «الأمة التي لا غنى عنها»، كما سمتها وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت في عام 1998.
أين أقرب منافس لنا وهو الصين؟ الواقع أنها غير ذات تأثير كبير في الأزمتين، إذ تبنّت موقفاً محايداً تقريباً في كلا الصراعين، منتقدةً في الوقت نفسه الولايات المتحدة ومواصلةً التجارةَ مع كل من روسيا وإيران.
ولئن باتت الصين الآن تمتلك أكبر قوة بحرية في العالم، فإنها قوة تركّز على مياهها الساحلية، وليس على الهيمنة على محيطات العالم مثلما فعلت البحرية الأميركية خلال ثمانين سنةً الماضية. وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة تمتلك 68 غواصة نووية مقابل 12 غواصة فقط للصين، و11 حاملة طائرات مقابل حاملتيْ طائرات اثنتين فقط للصين. أما روسيا، فإنها أكثر تأخراً عن الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً. وقد تبيّن في أوكرانيا أن قواتها المسلحة أضعف بكثير مما كانت تبدو عليه في فيديوهاتها الدعائية، وستحتاج لسنوات من أجل التعافي من الضربات التي تلقتها على أيدي القوات الأوكرانية المزودة بأسلحة غربية. وإذا كانت كوريا الشمالية وإيران تُعدان تهديدين إقليمين، فإنهما لا تشكّلان تهديداً جدياً لقوة الولايات المتحدة على مستوى العالم.
وإلى ذلك، فإن الولايات المتحدة ما زالت تمثّل 24% من الاقتصاد العالمي، أي أكثر من أي بلد آخر، وهو انخفاض طفيف مقارنةً مع مستواها في عام 1990 والذي بلغ 26%. ومن أصل الشركات العشر الأكبر في العالم، هناك 9 شركات أميركية، ليس من بينها أي شركة صينية. كما تنفق الولايات المتحدة على الدفاع أكثر مما تنفقه الدول العشر التالية لها مجتمعةً. وفضلاً عن ذلك، لدى الولايات المتحدة أكثر من 50 حليفاً مقارنة بعدد قليل فقط من الحلفاء بالنسبة للصين أو روسيا. وبالنظر إلى القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة، وهو ما يُعد انعكاساً لمجتمعها النشط والنابض بالحياة، فإنه ليس هناك سبب لعدم استمرارنا في قيادة العالم خلال القرن الحادي والعشرين، اللهم إلا إذا تنازلنا عن مكانتنا التي لا نظير لها في القوة. وأخشى أن نكون حالياً بصدد القيام بذلك، ليس كقرار واعٍ ولكن فقط كنتيجة لشللنا السياسي الداخلي. فمجلس الشيوخ ما زال يبدو أنه غير قادر على كسر قبضة توبرفيل وتثبيت مئات الضباط العسكريين الذين نحتاج إليهم في مناصبهم. ومجلس النواب الذي يسيطر عليه «الجمهوريون» يبدو غير قادر على إقرار الميزانية، وقد يؤدي إلى إغلاق الحكومة هذا الأسبوع، ذلك أنه وافق على تقديم مساعدات إضافية بقيمة 14 مليار دولار لإسرائيل، لكنه ضمّن قرارَه «بنداً ساماً» من شأنه تقليص مداخيل مصلحة الضرائب الفيدرالية ال«آي آر إس»، وبالتالي زيادة عجز الميزانية. وبالمقابل، لم يوافق المجلس على مشروع قانون المساعدات الخاص بأوكرانيا، حتى في وقت شارف فيه التمويل الحالي على النفاد. والحق أن مجلس الشيوخ يبدو أكثر استعداداً للموافقة على مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا، لكن الجمهوريين هناك مصرون على إضافة بنود متشددة بخصوص مراقبة الحدود لا تحظى بقبول «الديمقراطيين»، ويمكن أن تعوق مشروع القانون.
وللمرة الأولى منذ الهجوم على قاعدة «بيرل هاربور» البحرية، نلاحظ أن هناك حركة انعزالية كبيرة في الولايات المتحدة ترغب في القطع مع السياسة الخارجية الناجحة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي ارتكزت على التجارة الحرة والتحالفات الأمنية مع الديمقراطيات المماثلة. وفي حال عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أنه أمر وارد تماماً، فإنه من المرجح أن يتخلى عن حلف «الناتو» وأوكرانيا. كما أنه من المحتمل أن يتعرض حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا الذين يعتمدون على نشر القوات الأميركية، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان، لخطر التخلي عنهم.
وعليه، يبدو أن الجيل الجديد من أنصار شعار «أميركا أولاً» عاقد العزم على شلّ قوة الولايات المتحدة العالمية. وقد ينجحون حيث أخفق منافسون مثل الصين وروسيا والاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية وإيران و«القاعدة» و«داعش».. إلخ.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»