لفلسطين في سورة الإسراء مكانة خاصة تستمدها من وجود المسجد الأقصى فيها، وهي في أدبيات السياسة «دَين» على العالَم أداؤه عاجلاً أم آجلاً. منذ أن أصبحت فلسطين قضية القضايا في العالم، وما زالت كذلك على نحو أو آخر، بات التعامل معها يتم على أساس من المساحة الجغرافية، مع مسح وطمس للحدود السياسية!
حتى الساعة، ما زالت السياسة عاجزة عن دفن التاريخ وإن نجحت في طمس الحدود الجغرافية، ففي نصوص التلمود تأكيد صريح على يهودية الدولة الإسرائيلية وليس علمانيتها، وفي تلك النصوص أيضاً منع للصلح مع الفلسطينيين، بل دعوة إلى طردهم من الجغرافيا والتاريخ!
السلطة الوطنية الفلسطينية تتعرض للضغوط من قبل القوى العالمية المؤثرة من أجل القبول بتحويل فلسطين إلى مجرد قطعة أرض لا علاقة لها بالقدس ولا بالمسجد الأقصى، لهذا يكثر الحديث حالياً عن الكيلومترات التي يراد فيها إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومنزوعة المقدسات أيضاً.
في هذه الفترة المتدحرجة يعتقد بعضهم بإمكانية فرض سيناريو يتم بموجبه سلخ المساحة من أي مكان رغماً عن إرادة الشعب الفلسطيني وبقية شعوب الأمة العربية.
فلسطين منذ أزمنة التاريخ الغابرة لا يمكن أن تكون دولة إلا بالأقصى والقدس، ولو أمكن نقلها ونقل أهلها إلى أي مكان آخر فلن تحل المشكلة، ولن يوافق الشعب الفلسطيني على ذلك، حتى وإن رضخت السلطة الفلسطينية للضغوط السياسية والاقتصادية الراهنة. وذلك جزء مرتبط بإطالة أمد الصراع، لأن أثَر «الدِّين» فيه يفوق أثر عقبات السياسة، وبالتالي يصعب التوصل إلى حل يرضي الطرفين، ولن تمكن إزالةُ رائحة فلسطين التاريخية مقابل أي سيناريو محتمل.. فقبل التطبيق يلوح الفشل في كل مرة.
إن فك الارتباط بين الديني والسياسي في قلب الصراع العربي الإسرائيلي، هو العنصر الحاسم في أي تسوية حقيقية ممكنة، وإلا فسيبقى الصراع صفرياً على الدوام. والقيام بهذه العملية سياسياً أصعب ما يكون في الوقت الراهن، بسبب تخلي أميركا عن دور الوسيط وانحيازها إلى إسرائيل، ومؤشرات ذلك كثيرة، وأولها نقل السفارة إلى القدس والمواقف من مرتفعات الجولان السوري ومناطق الضفة الغربية.
إن الاستعجال في تغيير الواقع الفلسطيني لصالح «إسرائيل الكبرى» لا يحقق السلام ولا الاستقرار المنشود منذ عقود، وإعادة عجلة السلام إلى مسارها الصحيح ووضع ميزان الحقوق المسلوبة مدخلٌ أساسي لوقف موجات العنف والإرهاب المستشري، وخاصة ممن يتذرع بتحرير فلسطين كشرط لازم للقضاء على الإرهاب واستئصاله. فالمقدسات لا تنتزع من القلوب بالوسائل السياسية ولا عبر الاتفاقيات الأمنية، فكيف إذا كان المقدس هو «القدس» التي تمثل الأديانَ السماوية الثلاثة.
إسرائيل «العلمانية»، ومن ورائها التيارات المسيحية المتصهينة في أميركا، تلوذ بالتلمود بحثاً عن إسرائيل التاريخية التي تنص على أحقيتها في ضم الجولان والضفة إلى حدودها الكبرى.. وبالمقابل محرم على بلابل فلسطين الدوح والبوح بأي تاريخ يخص فلسطين التاريخية.
لكن التاريخ لا يحابي أحداً، حتى ولو تعرض للتزوير، لأن الحقائق لا تطمس إلى الأبد.. وفي التاريخ لا تستمر الأسرار ميتةً لأكثر من عقود، فلا بد أن تَحيي وتُحيى معها أمم.
*كاتب إماراتي