ألقى جلالة الملك محمد السادس خطاباً في البرلمان المغربي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية الحادية عشرة. ومن بين ما تناوله الخطاب مسألة القيم المغربية، فمكانتها التاريخية في المجتمع المغربي تشكل عاملا حاسماً في تشكيل الشخصية والهوية المغربية، وفي مسيرة النجاح والتطوير والصمود، باعتبار القيم الأساس القوي للتغلب على التحديات التي كان آخرها زلزال «الحوز»، حيث انتصرت القيم المغربية الأصيلة، ومكنت المغرب من تجاوز المحنة وآلامها.
القيم المغربية جعلت المغاربة دائماً أكثر قوة وعزماً على مواصلة مسار البناء، بكل ثقة وتفاؤل، وأنا أكتب هذه الأسطر من مدينة فاس، لا بد من الإشادة بالدور الذي اضطلعت به هذه المدينة من التأسيس لقيم التسامح في تاريخ المغرب. فعمر فاس أكثر من اثني عشر قرناً، وكان لها دور كبير في تأسيس الدولة المغربية وشخصية المواطن المغربي الذي عُرف بانفتاحه وقبوله للآخر أياً كانت ديانته. وكان من آثار توسيع فاس، ظهور حركة علمية انطلاقاً من جامع القرويين الذي أسسته السيدة فاطمة بنت محمد الفهري المكناة أم البنين عام خمسة وأربعين ومائتين للهجرة (859 م) في عهد يحيى حفيد إدريس الثاني، ثم جامع الأندلس الذي أنشأته بعد ذلك أختها السيدة مريم. ويمكن القول إن المدينة أصبحت بفضل هذين الجامعين عاصمة علمية تضاهي قرطبة في الأندلس، ومركزاً دينياً للفقه المالكي الذي اختاره المغاربة واستقروا عليه، إلى جانب العقيدة الأشعرية، ابتداءً من منتصف القرن الثاني الهجري، حتى غدا من أبرز خصوصياتهم الفكرية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق.
واكتسبت مدينة فاس مركزية لا توصف، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، ولكن أيضاً بالنسبة للعالم الإسلامي ككل، إذ غدت قِبلة الفقهاء الوافدين إليها بأفواج كبيرة من كل حدب وصوب، لاسيما من القيروان والأندلس أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث، على نحو ما يحكي التاريخ عن وفود القيروانيين والأندلسيين الذين كانوا في معظمهم من الفقهاء المالكيين. وهذا إلى جانب وفود اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد في الأندلس بعد سقوطها، وكذلك الرحالة والطلبة والعلماء من كل الديانات على نحو ما يُذكر عن قدوم جربير (Gerbert d'Aurillac) الذي هو البابا سلفستر الثاني، إذ تذكر المصادر التاريخية أنه زار فاس بعد منتصف القرن العاشر الميلادي، وأخذ الحساب عن أيدي علماء من جامع القرويين، كما يقال إنه أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا حيث حلت هناك هذه الأرقام محل الأرقام الرومانية.
ولم يكن غريباً في سياق ذلك التطور المتنامي أن تحتضن فاس جموع الوافدين إليها من مختلف أصقاع العالم ومن شتى جهات المغرب، وأن تصهرهم في بوتقتها، وتدمجهم في مجتمعها المتحرك الجذاب، القابل لمثل هذا التفاعل الذي التقى فيه الأمازيغ بالعرب الوافدين من الأندلس والمشرق، وكذا بالأفارقة القادمين إليها من جنوب الصحراء الكبرى، واليهود الذين أتوا من مناطق النزاع والاضطهاد فوجدوا في المواطن المغربي مثالا حياً للتسامح وتجسيداً واقعياً لروح الدين الوسطي المعتدل.
*أكاديمي مغربي