سائقو «آبس» ورخاء أميركا
بنهاية السنوات الخمس، وهي مدة الاتفاق بين شركة «يونايتد بارسيل سيرفيس» (آبس) لنقل الطرود وسائقيها، سيصل راتب السائقين العاملين بدوام كامل إلى 170 ألف دولار سنوياً، ويغطي هذا المبلغ الرعاية الصحية ومزايا أخرى. وهو أعلى من الأجر الحالي البالغ 145 ألف دولار. وبغض النظر عما تقوله تلك الأرقام حول مهارات مفاوضي السائقين، فإنها أيضاً شهادة على مدى الرخاء الذي تنعم به أميركا، إذ تقدم الأرقامُ بعضَ المؤشرات حول الوجهة التي قد يتجه إليها الاقتصاد الأميركي. مستويات المعيشة في الولايات المتحدة مرتفعة للغاية.
وبالنظر إلى نسبة المرتب إلى المزايا القياسية، فإن سائقي آبس قد يتقاضون راتباً مباشراً بالدولار يصل إلى 130 ألف دولار في سنة التعاقد الأخيرة. وكي نضع الأمور في نصابها، فإذا كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة بريدج بورت-ستانفورد-نورووك (حيث يوجد صندوق التحوط الثري لولاية كونيتيكت)، يبلغ نحو 127 ألف دولار، فإن سائقي آبس إذا أقاموا مدينة خاصة بهم، فستكون من بين أكثر المدن ثراءً في الولايات المتحدة.
وفي المملكة المتحدة، فإن المدينة التي يكونها سائقو آبس ستكون أغنى مدينة في البلاد كلها، وستتفوق بسهولة على منطقة لندن الكبرى. وسيكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في مدينتهم أعلى مرتين من نصيب الفرد في برمنجهام، المسجلة كثالث أغنى مدينة كبرى في بريطانيا. ومن الواضح أن مستويات المعيشة في الولايات المتحدة أعلى من معظم دول العالم، وهذا التعاقد دليل آخر على ذلك الاتجاه. فلا يوجد سوى القليل من الأماكن في العالم التي حصل فيها السائقون على شيء شيبه بما يحصل عليه سائقو الشركة بموجب الاتفاق المذكور. فالتعويض الذي يحصل عليه سائقو بارسيل سيرفيس أعلى بدرجة كبيرة من مرتب مهندس أميركي. وقد يكشف ذلك اتجاهاً آخرَ هو: ارتفاع أجور العمال، خصوصاً إذا كان من المتعذر أن يؤدي الكمبيوتر أو الذكاء الاصطناعي الوظائف التي يؤدونها.
ويكشف الاتفاق أيضاً أن التفاوض النقابي يمكن أن يجريه العمال بشكل جيد حتى في قطاعات فيها تركيز في السوق. فوفقاً لأحد التقديرات، فإن شركة آبس تنقل 37 بالمئة من طرود الخدمة السريعة والبريد السريع في الولايات المتحدة. ومن الصعب اعتبار ذلك احتكاراً، لكن تزايدت القيمة السوقية للشركة في السنوات الخمس الأخيرة. وتحرك شركة أمازون، التي تحقق أرباحاً كبيرة وهي شركة كبيرة للغاية، الكثير من تلك الشحنات التي تنقلها آبس. وفي الأساس، يحصل العمال على حصة من بعض الريع الذي تحققه شركات التكنولوجيا وشبكات الإمداد.
من الشائع جداً شجب الأرباح المفرطة لبعض الشركات الكبيرة وتشجع هذه الأرباحُ الأجورَ الأعلى للعمال. لكن الواقع أن الشركات الكبيرة، على الأرجح، تقدم أجوراً أعلى للعمال. ومع ذلك، فإن القوى التعويضية ستحد من توزيع مكاسب العمال. وعلى سبيل المثال، فإن أحجام الطرود لدى آبس كانت تتراجع على مدى عدة فصول، ويرجع ذلك في جانب منه إلى تراجع الطلب نتيجة الجائحة إلى حد كبير. لذا لم يكن من المتوقع أن تقوم الشركة بتوظيف الكثير من السائقين، الأمر الذي جعل من السهل عليها أن تكون سخية مع السائقين العاملين. وقد يكون من المتوقع أيضاً أن تخسر الشركةُ حصةً من السوق.
فشركة أمازون للشحن تكسب بالفعل حصصاً على حساب آبس، وأن ذلك الاتجاه سيستمر على الأرجح. عمال أمازون ليسوا نقابيين ويحصلون على أجور أقل. وفي كل الأحوال، إذا كانت هناك شاحنات للتوصيل ذاتية القيادة وقت التفاوض على العقد فإن الشركة ما كان يمكن أن توافق على هذه الصفقة. كذلك، يمكن للشركة أن تستعيد بعض المكاسب التي حصل عليها العمال من خلال الطريقة التي تقنن بها وظائف السائق. فالعمال يتعين عليهم أولا قبول وظائف متدنية الأجر في فرز الطرود وتحميلها وهو تدريب مهني يمكن أن يستمر لبضعة سنوات قبل قيادة سيارة. وبعد الإعلان عن الاتفاق، رأت واحدة من لوحات شركات التوظيف عبر الإنترنت أن البحث عن طرح وظيفة سائق في آبس يتزايد بنحو 50 بالمئة.
وقد يتيح الطلب الأعلى للشركة أن تكون أكثر صعوبة في التوظيف وأن تقدم شروطاً أقل للعاملين في الفرز والتحميل. وفي معظم الحالات، فإن زيادةً تتراوح بين 10 بالمئة و20 بالمئة في اشتراك النقابة، ليست كبيرةً كما يبدو بالنسبة لسائقي الشاحنات والشركة. ويجب موازنة ذلك بالطلب الأقل على العمل في هذه الوظائف، التي تضر بالطبقة العاملة، والتي من المحتمل أيضاً أن أسعارها أعلى بالنسبة للمستهلكين من الطبقة العاملة الناجمة عن الأجور الأعلى. وعليه فإنه في حين أن اتفاق آبس اتفاق جيد بالنسبة للعمال يجب الاحتفال به، فإنه لا ينتهك القوانين الأساسية للاقتصاد.
ومعظم الاتفاقات الجيدة ليست جيدة تماما كما تبدو في البداية، وهذا الاتفاق ليس استثناءً. ففي المرة القادمة التي أطلبُ شيئاً من خلال الإنترنت سأفكر أين سيذهب بعض النقود؟ ولماذا تكون الأجور في بقية القطاعات في الولايات المتحدة أقل بكثير؟ وعندما يقوم سائق آبس المؤدب والقادر بلا كلل بتوصيل الطرد الخاص بي، سأهنئه.
*أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج ميسون
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج أند سينديكيشن»