رضاء العَوامِ.. بالجَهلِ وإقالةِ العقلِ
إنّه أمرٌ في غاية الخطورة، عندما يُسعَى إلى إرضاء العوام، ففكرة «النَّاس على دين ملوكهم» (ابن الطّقطقيّ، الفخري)، أو «على دين الملك» (ابن خلدون، المقدمة) فاعلةٌ، فإنْ ارتفع الملوك بالنَّاس حلقوا، وإن نزلوا بهم هبطوا، وهذا ما ظهر جلياً عندما تفاقم أمر الأحزاب الدِّينيّة وصحواتها، هبط العديد مِن الأنظمة، فتبنت ما أشاعته تلك القوى نفسها، بإظهار الحملات الإيمانيّة، وهذه حصلت عبر التّاريخ.
نجد في سياسة الحاجب المنصور ابن عامر(ت: 392هج)، مثالاً على هذه المسايرة، وما ترتب عليها مِن انهيار معرفي وثقافي، ظلت تعاني منه الأندلس طويلاً، فكان حاجباً لخليفةٍ صبيٍ، قيل كان مع ابن عامر «صُورةً بلا مَعنى»(الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء).
قام الحاجب بجرد خزائن الكُتب، التي جمعها المستنصر بالله الأمويّ(ت: 366هج)، والد الخليفة، المركون في قصره، وكانت مكتبات عظام، تحوي مِن الكُتب «يُضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطَّويلة»(الأندلسيّ، طبقات الأُمم). أخرج منها كتب الفلسفة والمنطق والفلك، وكُتب الأقدمين، وأمر بحرقها ورُميها في آبار القصر، وهيل التَّراب عليها. لم يكن الحاجب كارهاً للكتب ومؤلفيها، ولا صاحب موقف فكريّ أو عقائديّ، كي يثأر مما يخالفه، إنّما كان الغرض تحبباً للعوام، أيّ طلب الشَّعبية بلغة اليوم، وإن لم يكن آنذاك انتخابات وتصويت، لكن رضاء العوام يعينه على التمكن مِن ابن المستنصر الذي حجبه تماماً، بالوصاية عليه.
خلاف ما كان عليه عهد الخليفة المستنصر بالله، ففي عهد الأخير كانت الحياة العقلية منتعشة، أراد الحاجبُ احتواء النّاس بأسهل الطّرق، بمحو كلِّ ما عمله الخليفة المتنور، فصار مَن قرأ المتعلم المجادل «متهماً عندهم بالخروج عن المِلة، مظنوناً به الإلحاد في الشَّريعة، فسكن أكثر مَن كان تحرك للحكمةِ عند ذلك، وخمدت نُفوسهم، وتستروا بما كان عندهم مِن تلك العلوم»(طبقات الأُمم). استلم ابن عامر النّفوذ السَّنة(366-392هج) أي استمر كتم أفواه وأقلام الفلاسفة والمفكرين، لستٍ وعشرين سنةً، وظل الحال عليه بوراثة ولده لمنصب الحِجابة، والسَّير على النّهج نفسه، حتَّى «افترق المُلك إلى جماعة مِن المخربين»(نفسه).
هذا ولكم تقدير محنة مَن صعب عليه قفل عقله، ونُكب بتدمير كتبه، فهرب بعيداً ومات بمنفاه الاختياري! وصل الحال بالأندلس، التي فتح المستنصر أبواب المعرفة والفنون بها، وتشجيع كلِّ ما يفيدُ العقلَ ويضرُ الجهلَ: «إنه كُلما قيل فلان يقرأ الفلسفةَ، أو يشتغل بالتَّنجيم، أطلق عليه العامة اسم زَنديق، وقُيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهةٍ رجموه بالحجارة، أو أحرقوه، قبل أنَّ يصل أمر السُّلطان، أو يقتله السُّلطان تقرباً لقلوب العامة»(المُقريّ، نفح الطَّيب).
هنا استغل الفقهاء، مِن خصوم الفلاسفة وأهل المعرفة، فقاموا بتحريض العوام ضدهم، استغلالاً لمنزلة الدّين الرّوحيّة عند النَّاس، ورضاء الحاكم، ففي زمن المرابطين مثلاً «كانوا يُسمَّون الأَمير العظيم منهم، الذي يريدون، بالفقيه»(نفح الطّيب).
لو تنظرون في الثَّلاثين سنة الماضية، وبما حصل لبلدان، عبر غزو وعبر ما سميّ بالرّبيع العربيّ، ستجدون سياسة ابن عامر الحاجب ماثلة أمامكم، تسير أمور بلدان بمجاملة العوام، وتُفشي الجهل بها، وهنا لا يبرز غير «الأدب الكابي»، بدلاً مِن العلم والمعرفة، ومَن راقب المشهد العراقيّ خصوصاً مؤخراً لا يكون جاهلاً بأحوال الحاجب ابن عامر، بينما ارتفع حُكام ببلدانهم، وشيدوا المكتبات العظام وبثوا المعرفة العقليّة. نذكر ما يُعبر عن الحال: «وزُمرةُ الأدبِ الكابي بزُمرتهِ/ تَفرَّقت في ضَلالات الهوى عُصَبا/ تَصيَّد الجاهَ والألقابَ ناسيةً/ بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةً لَقبا»(الجواهريّ، قف بالمعرة 1944). يستقيل بمسايرة العوام العقل، فلا مكان له، بانتعاش الأدب الكابي. هذا، ومعنى الكابي الرّماد أو الفحم.
*كاتب عراقي