الثابت الكوني
الفيزياء الكونية ممتعة للغاية، وتبدو السّباحة في الكون وكأنّها سباحةٌ داخل العقل، حيث يطوف الإنسان المجرات تلو المجرات، ليعود بعدها وقد حصدَ مزاجًا رائعًا ومتعةً علمية لا حدود لها. من المثير في هذا السياق ما نشره عالمان إيطاليان في جامعة فيرونا عام 2020.. بشأن التشابه بين الكون المرئي والدماغ، وأن الرحلة داخل الدماغ البشري تبدو وكأنها رحلة داخل الكون بالفعل. إن أسرار الدماغ وأسرار الكون هما الأكبر في حياتنا كلها، وإذا كانت الدراسة الإيطالية تتعلق بالكون المرئي، فإن الكون الكبير يمتلئ بعدد لا نهائي من المجرات.
ولاتزال هناك مجرات جديدة تتشكل، ونجوم جديدة تولد بين الفترة والأخرى، فالتكاثر الكوني لم يتوقف بعد. حسب دراسة أجراها علماء في معهد ماكس بلانك لعلم الفلك في ألمانيا توصل الباحثون إلى أن الهيدروجين بدأ التراجع في الكون منذ الثلث الثاني من نشأته. فإذا كان الكون قد نشأ قبل 13,8 مليار سنة، فإن كميات الهيدروجين المتأيّن كانت في أعلى مستوياتها في المليارات الأربعة الأولى، ثم بدأت الانخفاض فيما بعد.
وإذا كان الهيدروجين هو وقود النجوم، إذ كلما زادت كمية الهيدروجين وُلدِت نجوم جديدة، وكلما انخفضت كان ذلك أقل.. فإن ولادة النجوم قد تراجع معدلها منذ ذلك الحين. لقد تشكلت نصف نجوم الكون في المليارات الأربعة الأولى من عُمر الكون، وتشكلت (40%) منها منذ المليار الخامس وإلى الآن، وفي المليارات الخمسة القادمة، وحين يصل عمر الكون إلى قرابة (19) مليار سنة ستكون (10%) من النجوم الجديدة قد تشكلت، واكتملت بذلك نجوم الكون.. حيث لا هيدروجين بعد ذلك يكفي لولادة نجوم جديدة! يقود ذلك الأمر إلى أكبر جدل في تاريخ الفيزياء المعاصر: هل استقر الكون وأصبح ثابتًا، أم أنه لايزال يكبر ويتمدد؟
وهنا تتوزع الإجابة على مدرستيْن مهمتيْن: المدرسة التي يقودها ألبرت أينشتاين والتي تقول بأن الكون ثابت ولا يتمدّد، والمدرسة التي أسسها العالم البلجيكي «جورج لوميتر» والعالم الأمريكي «أدوين هابل» في عشرينيات القرن العشرين، وتقول بأنّ الكون لايزال يتوسع ويتمدّد.
والمجرات بدورها في حالة تباعد عن بعضها البعض. حسب موقع «لايف ساينس» فإن عالم الفيزياء في جامعة جنيف «لوكاس لومبريزر» ذهب في دراسته عام 2023 إلى أن أينشتاين على صواب، وأن توسّع الكون ليس إلاّ وهْمًا، فالكون ثابت ولا يتمدد. والقول بأن الكون يتمدد، وأن الطاقة المظلمة هى التي تمدّه بالطاقة اللازمة للتوسّع هو طرح يجب إعادة النظر فيه.
العنوان الكبير لنظرية أينشتاين في ثبات الكون وعدم التمدُّد يمثِّله مصطلح «الثابت الكوني»، ولقد أصرّ أينشتاين على التنبؤ بعدم تمدد الكون، ولمّا ذهب «لوميتر» و«هابل» إلى أن الكون يتمدد، وذهب علماء معاصرون إلى أن التمدد يسير بشكل متسارع.. وصف أنصار التمدد نظرية الثابت الكوني.. بأنها أسوأ تنبؤ في تاريخ علم الفيزياء.
الجدل بين أنصار «الثابت الكوني» وأنصار «تمدد الكون» هو أحد أهم وأمتع الصراعات في حقل الفيزياء الفلكيّة. وبينما يكسب هذا الطرف جولة هنا، يكسب الطرف الآخر جولة هناك.. إن متابعة هذه المباراة وتطوراتها.. قد تكون أروع كثيرًا من متابعة نهائي كأس العالم لكرة القدم.
الجهل حرمان.. والمعرفة ثراء.
*كاتب مصري