ماذا بعد جِنين؟
شهدت بداية هذا الشهر تعدي إسرائيل على جنين في الضفة الغربية. الحجة في الاقتحام العسكري كانت القضاء على الإرهاب وفقاً للتعريف الإسرائيلي، الذي يصف المجموعات المسلحة الفلسطينية بذلك. ولكن واقع الأمر قد تُفسّره أمور أخرى إذا تم النظر إلى ما حدث بصورة متكاملة، في ضوء المستجدات التي تشهدها الساحة الإسرائيلية. ومن هنا فإن ثمة تساؤلات يمكن طرحها في هذا الصدد، منها: ما هي دواعي الاقتحام في هذا التوقيت، وما هو وضع السلطة الفلسطينية في المعادلة الإسرائيلية؟
وكيف يمكن تصور ما ستؤول إليه الأحداث مستقبلاً؟ إن الاقتحام الذي شهدته جنين لم يكن عادياً، فعلى الرغم من تكرار الممارسات الإسرائيلية ضد هذه المنطقة بمدينتها ومخيمها، فإن ما حدث هذه المرة كان الأشد منذ الانتفاضة الثانية قبل نحو 20 عاماً. في هذا الاقتحام كان هناك 1000 جندي إسرائيلي بمشاركة القوات الخاصة وقوات النخبة، ونحو 120 آلية عسكرية وجرافات مدرعة. وكان هناك توظيف للطائرات في القصف، الذي بدأ الشهر الماضي لأول مرة منذ عشرين عاماً - وهو ما يُنذر بخطورة المقاربة الإسرائيلية الحالية في التعامل مع الضفة الغربية.
ومن جانب الضحايا، فقد استُشهد حوالي 12 فلسطينياً، وهذا الرقم يضاف إلى عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا منذ بداية هذا العام ليصلوا لأكثر من 180. والأمر المؤسف أن الممارسات الإسرائيلية طالت المستشفيات عبر إلقاء عبوات الغاز المسيلة للدموع في محيطها، في مشهد يثير التعجب من الهدف الأساسي الذي أعلنته إسرائيل لهذه العملية.لم يكن ما حدث وليد اللحظة، فشهر يونيو شهد أيضاً اقتحاماً للقوات الإسرائيلية في جنين، وكان هناك تصعيد من قِبل المستوطنين ضد الفلسطينيين عبر هجومهم على بلدة ترمسعيا الفلسطينية شمالي رام الله على أثر مقتل عدد من الإسرائيليين، إلى جانب الهجوم على قرية عوريف بجنوب نابلس.
وفي الشمال كانت هناك مناوشات بين الدروز والقوات الإسرائيلية على أثر مشروع التوربينات الهوائية، إلى جانب ما حدث في مزارع شبعا على الحدود اللبنانية. كل هذه المستجدات تُدل على أن شمال الضفة الغربية والمناطق المحاذية للجولان المُحتل تشهد تصعيداً بالتوازي مع ما يعانيه المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي من استقطاب على ضوء الاختلافات حول خطة الإصلاحات القضائية، والعنف في المجتمع العربي الذي زادت على أثره الانتقادات الموجهة لوزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير.
إن توقيت الاقتحام جاء مع ما تشهده السلطة الفلسطينية من ضعف سيطرة أجهزتها الأمنية على المناطق الخاضعة لها، والسبب خلف ذلك يعود إلى سوء الأوضاع المعيشية للفلسطينيين الذين يعانون أزمات اقتصادية متتالية، ما أدى إلى زيادة نشوء المجموعات المسلحة غير المقتنعة بأهمية وفاعلية دور السلطة. وما من شك في أنه إذا استمرت الأمور على هذا الحال، فإن عدد هذه المجموعات مُرشح للزيادة، وخاصة أنها بدأت تشق طريقها على خلاف الفصائل الفلسطينية القديمة.
وهذا الأمر سيؤدي إلى خلق واقع جديد للحالة الفلسطينية قائم على خلافات وانقسامات أعمق ستزيد المواجهات مع الإسرائيليين. والقاعدة تنطبق بالمثل على إسرائيل، فممارساتها ستؤدي إلى مزيد من التعقيد. وإذا جئنا لفهم دواعي الانسحاب الإسرائيلي، فإنه تمحور بمُحددين: الأول، أنه جاء بعد العملية التي قام بها فلسطيني في تل أبيب وتبنتها «حماس»، والثاني: تاريخ الانسحاب صادف ذكرى يوم استقلال الولايات المتحدة 4 يوليو. فمن جهة لا تريد إسرائيل أن تصعّد ضد «حماس»، الأمر الذي سيؤدي لإشعال جبهتين في آن واحد. ومن ناحية أخرى ثمة رغبة لدى الإسرائيليين باستثمار الموقف الأميركي المؤيد لهم في هذه العملية، لذلك كان هناك متطلب منطقي لأن يكون الاقتحام محدوداً حتى لا ينقلب الموقف الأميركي.
وبالمحصلة، فإن سلسلة الاقتحامات الإسرائيلية لن تنتهي في ظل ضعف السلطة الفلسطينية الذي لابد أن يعالَج، مع تحسين أوضاع الفلسطينيين. ولابد لإسرائيل أن تعي أن العنف لن يولّد إلا العنف، فإذا لم يتم التوقف عن هذه الممارسات، فإن معضلة المجموعات المسلحة لن تُحل أبداً، والتي من المؤكد أن تداعياتها ستكون سيئة على الأمن الإسرائيلي.
*باحث رئيسي متخصص في الشؤون الإسرائيلية - رئيس قسم الدراسات الاستراتيجية.
مركز تريندز للبحوث والاستشارات