ابنُ خَلدون.. بين التقديسِ والتبخيسِ
ختم معرض أبوظبي الدُّولي للكتاب دورتَه (32)، بندوة «ابن خَلدون.. المُقدمة والتَّاريخ» (28/5/2023)، فابن خَلدون (732-808هج) الشَّخصيَّة المحتفى به. كان الحضور يرجون الرَّأي بابن خلدون، أمَّا سيرته وتفاصيل التَّحقيق فمجالها آخر. يُعد ابن خَلدون الثَّاني، مِن الأقدمين، كتب مذكراته بقلمه، بعد أسامة بن منقذ (ت: 587هج) في «الاعتبار». فهما خصصا كتابيهما لسيرتيهما.
يظن المقدسون أنْ ما كتبه ابن خَلدون لم يسبقه سابق، مثلما قال: «وأكملت المقدّمة على ذلك النَّحو الغريب، الّذي اهتديتُ إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام، والمعاني على الفِكر» (المقدمة). يقصد خلوته بقلعة بني سلامة (776هج)، غير أنّ مقدمته، على فصاحتها، لم تكن «نحو غريب»، ولا تُقصد ببيت كعب بن زُهير(ت:25هج): «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا» (ابن عبد ربه، العقد الفريد)، ففيها الجديد ومنها تطبيقات آراء السّابقين على الدّول والمجتمعات التي أدركها.
كان ابن خَلدون حريصاً، يذكر مصادره، مشارقةً ومغاربةً، إلا رسائل إخوان الصَّفا، التي ظلالها وارفة على مقدمته (مقالنا في الحياة 21 يناير1997): مِن دورة نشأة الكائنات، والعلوم، والموسيقى، عنده «صناعة الغناء»، إلى السِّحر وعلاقته بالحروف، وما بين النَّبي والفيلسوف، عنده النَّبي والحكيم، كلها واحدة، وفلسفة الدَّولة أهمل منها دولة الخير، ومراتب «مجتمع الإخوان»، وكل ما تعارض مع عقيدته، مع الغرابة بأخذ فكرتهم في التَّكوين نصاً، التي لا تنسجم مع أشعريته.
لم يكن «إخوان الصَّفا» ينتمون لمذهب، كي نعذر ابن خَلدون بعدم ذِكرهم، ولا اتجاه سوى الفلسفة، فالمثقف لا تحتمله المذاهب. قد يُقال: كيف أطلع ابن خَلدون المغاربي على رسائل فلاسفة عراقيين؟! يُجيب صاعد الأندلسيّ (ت: 462هج) أنّ عَمرو الكرماني (ت: 450هج) كان ببغداد فـ«جلب معه الرِّسائل المعروفة برسائل إخوان الصّفا، ولا نعلم أحداً أدخلها الأندلس قبله» (طبقات الأُمم).
كان ابن خَلدون، ابن عصره عظيماً، في كتابة التاريخ والأسلوب الذي كتب به مقدمته، لكنه ليس الأول الذي أستهل تاريخه بمقدمة فكريّة، سبقه ابن الطّقطقي (ت: 708هج) في «الفخريّ»، مع الاختلاف، وأنْ ما ورد في مقدمته كان استيعاباً للرسائل المذكورة.
لسنا مع تقديس عليّ الورديّ (ت: 1995) عندما اعتبر المقدمة: «مِن فيض الخاطر» (منطق ابن خلدون)، ولا ساطع الحصريّ (ت: 1968): «تدفق مفاجئ بعد حدس باطنيّ» (دراسات في المقدمة). بالمقابل لسنا مع تبخيس سامي شوكة (ت: 1986)، مدير المعارف العراقيّة: «لو كنَّا وطنيين حقَّاً لنبشنا قبر ابن خَلدون، وأحرقنا كتبه» (الحصري، مذكراتي). فالعِلم ليس إلهاماً وفيوضَات، تراكم معرفيّ. كذلك لو أمتلك شوكة حِجةً لقدمها.
ابن خَلدون ابن زمانه، لا يُحاسب بروح زماننا هذا. لأنه قال عن تيمورلنك (803هج): «مدّ يده إليّ فقبّلتها» (كتاب التَّعريف)، أو لأنّ تيمورلنك طلب منه كشفاً بجغرافيا المغرب - بنية غزوها –: «وأحبُّ أنْ تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره، وقراه وأمصاره، حتَّى كأني أشاهده». فكتب له: «مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة مِن الكراريس» (التَّعريف)، أو مخاطبته: «ما أعتقد أنه ظهر في الخليقةِ، منذ آدم، لهذا العهد مَلكٌ مثلك، ولستُ ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم»(نفسه).
مَن يؤاخذ ابن خَلدون، ويعتبره خنوعاً للسلطان التَّتري، ليفهم أنّ ذلك كان عصر الإمبراطوريات المتغلبة، لا يُقاس بالخيانة والوطنيَّة. فالمعتزلة، الذين نعتز بهم، وننتقد ابن خَلدون لأنه أشعريٌّ ضدهم، كان قطبهم عبد الجبار بن النُّعمان السَّمرقنديّ المعتزليّ(ت: 808هج)، ترجماناً عند تيمورلنك، ترجم بينه وبين ابن خَلدون (التَّعريف)، وطاف معه البلدان (حاجي خليفة، سلم الوصول إلى طبقات الفحول)، فشهد الفظائع، وآلام مَن غزاهم.
أقول: إنَّ سبيلَ العلم لا تقديسٌ ولا تبخيسٌ، إنصافٌ باعتماد دراية، وتحقيق رواية.
*كاتب عراقي