إشراك القطاع الخاص في التحول إلى اقتصادات منخفضة الكربون
في وقت تواجه فيه الدول آثاراً مدمِّرةً من التغيرات المناخية أصبحت هناك حاجة عالمية مُلحَّة للتحول نحو اقتصادات منخفضة الكربون «NET ZERO»، وهو المفهوم الذي يهدف إلى الحد من الانبعاثات الكربونية الناتجة من الأنشطة البشرية، ومن ثمَّ تقليل الأثر السلبي في البيئة. وعلى الرغم من الجهود الدولية، مثل «اتفاقية باريس للمناخ» التي وقَّعتها 193 دولة، إضافةً إلى الاتحاد الأوروبي، لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، واتخاذ إجراءات مناخية طموحة تحافظ على ارتفاع درجة الحرارة دون 1.5 درجة مئوية، وخطط الحياد المناخي ومواثيقه التي تسعى للوصول إلى صافٍ صفريٍّ للانبعاثات بحلول عام 2050، فإن الالتزامات التي تتعهد بها الحكومات أقل كثيراً من المستهدفات المأمولة.
ويدفع هذا الواقع إلى التفكير في مدى التأثير الممكن للتعاون المشترك بين الحكومات، ومجتمعات الأعمال، ومؤسسات القطاع الخاص، في تعزيز هذه الأجندة العالمية، ولا سيَّما أن شركات القطاع الخاص مسؤولة عمَّا يقرب من 75 في المئة من الانبعاثات العالمية. وقد تعهَّدت 553 شركة ومؤسسة تعمل في 70 دولة، وتمثل 15 صناعة، وتضم كبريات الشركات والمؤسسات الدولية، بالتزامها تخفيض انبعاثاتها الكربونية والضارة، ووقَّعت مجموعة من الاتفاقيات بهذا الشأن، إلَّا أنها لا تزال تمثل مجتمعةً ثلث السوق العالمية، ما يستدعي الالتفات إلى أغلبية الشركات والمؤسسات التي لم تقرِّر بعد مثل هذا التعهد من جانبها.
وتستوجب هذه الحقيقة نفسها توجيه انتباه راسمي السياسات إلى الدور التشريعي والتنظيمي الذي يمكن أن يحفِّز القطاع الخاص على التزام تقليل الانبعاثات الكربونية، وتشجيع ممارسات الطاقة المتجددة، والاستثمار في التكنولوجيات والعمليات المنخفضة الكربون. ومن بين التدابير المهمَّة التي قد تسبق وضع الأطر التنظيمية لراسمي السياسات إجراء دراسة شاملة لقياس الانبعاثات الكربونية وتقييمها على المستوى الوطني، وتحديد الانبعاثات على مستوى الصناعات والقطاعات المختلفة، ومن ثمَّ وضع أهداف واضحة، وتحديد مسؤوليات الأطراف المختلفة. ويجب أن توضح هذه اللوائح متطلبات القياس والكشف عن المخاطر المتعلقة بالمناخ، ومدى تحقيق المؤسسات للمستهدفات، ما سيسهم في تعزيز الشفافية أمام المستثمرين والمستهلكين والمراقبين، وتوجيه قراراتهم. ويمكن أن تتضمَّن هذه السياسات لوائح تسعير الكربون التي تفرض الرسوم على انبعاثات الكربون، وتستهدف التأثير في سلوكيات الاستهلاك، وتشجيع الاتجاه نحو الطاقة المتجددة، التي تتطلَّب من الشركات الاعتماد على مصادر متجددة بديلة بنسب محدَّدة.
وفي حين لا يقتصر تأثير الانبعاثات على مساحة الحدود الوطنية، فإن التنسيق العالمي، والعمل المشترك، باتا أمرين ضروريَّين للتحول العالمي نحو اقتصاد منخفض الكربون، وتحقيق الاستدامة البيئية، كما أن تعزيز الوعي العام على مستوى الأفراد بشأن قضايا التغير المناخي جزءٌ لا يتجزأ من المنظومة التعاونية الشاملة بين المكونات المحلية والوطنية والدولية كافة.
وعلى الجانب الآخر، ينبغي لراسمي السياسات الانتباه إلى الجدوى الاقتصادية في مشروعات المناخ، التي قد تدعم المنظومات التنموية في البلدان العربية، فبحسب تقديرات المفوضية العالمية للاقتصاد والمناخ، التي شارك فيها أكثر من 200 خبير، فإن السوق العالمية للسلع والخدمات المنخفضة الكربون قد تحقق ما لا يقل عن 26 تريليون دولار من الفوائد الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، كما أنها قد توفر أكثر من 65 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2030، بحسب تقرير مجموعة اقتصاد المناخ الصادر في عام 2018.
ويمكن للحكومات العربية جني ثمار «اقتصاد المناخ»، أو «الاقتصاد الأخضر»، لا سيما أن الكثير منها يسعى إلى تبني نماذج اقتصادية تعتمد على ممارسات الاقتصاد الدائري للحد من النفايات، بإعادة تدويرها، والاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية، والامتثال للمواثيق الدولية، ولكنها لا تزال تحتاج إلى التركيز على تهيئة بيئات مُمكِّنة للشركات للابتكار في حلول الطاقة بما يتوافق مع متطلبات التنمية الاقتصادية على المستوى الوطني، ويسهم في تحقيق الأهداف البيئية.
كما يمكن أن تسهم برامج المسرِّعات الحكومية في تحفيز التطوير والابتكار، ونشر السلع والخدمات والتقنيات النظيفة، إلى جانب البرامج التمويلية، والإعفاءات الضريبية، والحوافز الأخرى، لدعم البحث والتطوير في إنتاج الطاقة المتجددة، وتقنيات الهيدروجين الأخضر والوقود الحيوي، واحتجاز الكربون، وتخزينه. ويمكن للمشروعات التعاونية بين القطاعين العام والخاص، وطرح السندات الحكومية الخضراء، تحفيز الابتكار من جهة، وكذلك تمكين الصناعات التكنولوجية من توجيه نماذج أعمالها للتحول نحو وسائل الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من وجود تحديات عديدة في هذا المضمار، مثل المعرفة الفنية الكافية، وارتفاع تكاليف الاستثمار في بعض الحلول المنخفضة الكربون، فإن حجم السوق العالمية، التواقة إلى مثل تلك المنتجات، يُعَدُّ مؤشراً جيداً إلى جدوى هذه المشروعات وربحيتها. كما أن المشروعات قد تخدم الأولويات الوطنية العربية في تطوير قطاعات تنموية حيوية، مثل الطاقة والمدن والغذاء واستخدام الأراضي والمياه والصناعة، فضلاً عن تقليل التكاليف، وتوفير فرص العمل في الصناعات المستدامة.
ويُذكَر هنا أن المنطقة العربية تقع ضمن أهم حزام مشمس بالكوكب، وتملك صحاري شاسعة قد تكون مصدراً للطاقة المتجددة للكوكب في المستقبل، ما قد يشجع على إعمار تلك الصحاري، وتحويلها مصدر إنتاج، بدلاً من هجرها وتركها أرضاً بوراً خاوية. كما سيؤدي هذا النوع من الاستخدام إلى تخفيض درجات الحرارة المرتفعة التي تنتجها أشعة الشمس فوق هذه الأراضي الواسعة، وذلك لتحويلها نوعاً آخر من الطاقة.
ومن أجل استغلال الفرص الاقتصادية والسوقية الضخمة ينبغي لراسمي السياسات اتباع نهج مختلف للتنمية المستدامة، يراعي حقيقة أنه للوصول إلى الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ينبغي تشجيع الحوار والتعاون مع الشركات، والمجتمعات المحلية، والمجتمع المدني، والشركاء الدوليين. وتقف الدول العربية اليوم أمام معترك جديد لن يكون الانسحاب منه خياراً، بل ستنجرف إليه، وسيكون الرابحون، كالعادة، هم الدول التي تملك جرأة استباقية في ميدان الاقتصاد العالمي.
*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي.