نظام التقاعد الفرنسي.. إصلاح يستحق المخاطرة
الكلمة الفرنسية لهذا الشهر هي «chienlit»، ويرجع تاريخها لقرون وتعني حرفياً «تلطيخ السرير»، وتستخدم اليوم لوصف حالة الفوضى في الشوارع. وقد اشتهر هذا المصطلح في أيام شارل ديجول خلال أعمال الشغب الطلابية عام 1968، وعاد إلى الشهرة بعد عشرة أيام من الإضرابات التي أثارها مؤخراً رَفعُ الحد الأدنى لسن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً.
والتعبير فرنسي، وكذلك الصور في الآونة الأخيرة لإضرام النيران في القمامة التي لم يتم جمعها، والاشتباكات مع شرطة مكافحة الشغب، كل ذلك أظهر أن المشكلة الجذرية ربما تتجاوز فرنسا. فنحن في قبضة ما أَطلَق عليه كل من تشارلز جودهارت ومانوج برادهان في عام 2020 «التراجع الديموغرافي الكبير». وهذا يعني نهاية عقود من الاتجاهات الاقتصادية الحميدة في التضخم وأسعار الفائدة وعدم المساواة.
ومن المثير للقلق أنه في الوقت الذي يتم فيه التراجع عن إنكار التغير المناخي، يتزايد الإنكار الديموغرافي. والأرقام تتكرر، فسكان القارة الأوروبية يتزايدون شيخوخةً بعد أن بدأ أبناء طفرة المواليد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية يختفون، حيث بلغت نسبة الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً نحو 21.1 بالمئة من السكان في منطقة الاتحاد الأوروبي العام الماضي، ارتفاعاً من 18 بالمئة قبل عقد من الزمن. وفي منطقة يبلغ فيها متوسط العمر 44 عاماً وتتراجع معدلات الخصوبة، يطغى الواقع على سن التقاعد القانوني.
وفي استطلاعٍ حديثٍ أجرته «بلومبيرج» حول متوسط العمر المتوقع مقابل سن التقاعد الفعلي، هيمنت الدول الأوروبية على المراكز العشرين الأولى، تتصدّرها فرنسا ولوكسمبورج، حيث يتمتع الفرد بنحو 18 عاماً من الصحة الجيدة بعد التقاعد. وهذا يبدو وكأنه نتيجة سعيدة للعيش لفترة أطول، لكنه يؤدي إلى صراع اجتماعي لا مفر منه. ويتم تحويل عبء تمويل أنظمة المعاشات التقاعدية إلى الأجيال القادمة، مثلها في ذلك مثل كلفة تَغيّر المناخ. ووجدت دراسةٌ أُجريت عام 2020 أن متوسطَ عجز نظام المعاشات التقاعدية في أوروبا بلغ نحو 2.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وسيرتفع إلى 4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي العقود الثلاثة القادمة. سيضم نظام الدفع المقدم في فرنسا 1.2 عامل فقط لكل متقاعد بحلول عام 2070. وطلاب المدارس الثانوية الحاليون الذين يضرمون النار في القمامة يدافعون فعلياً عن وضع قائم ليس في صالحهم على وجه الخصوص. ونادراً ما تكون الحكومات على استعداد لمعاقبة المتقاعدين لأنهم هم الأكثر احتمالا للتصويت. ومن المقرر أيضاً أن يتفاقم التضخم وعدم المساواة نتيجة لذلك، وفقاً لجودهارت وبرادهان. والنمو في صفوف المعالين من كبار السن يعني إضافةَ مستهلكين أكثر للضغوط التضخمية، وتحسين القدرة التفاوضية لقوة عاملة متقلصة تطلب أجراً أفضل.
وتفاقم عدم المساواة في الدخل وعدم المساواة في الثروة في كثير من الاقتصادات، فقد ارتفع مستوى عدم المساواة في ألمانيا، وتمتع المتقاعدون الفرنسيون بمستوى معيشة أعلى من العمال أثناء فترة الجائحة. وقيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة يؤجج ردَّ فعل عنيف من الدول. وتَمثل ردُّ الفعل على كل هذا في شيء يقترب من الإنكار، أو على الأقل قِصر النظر. وتشير النقابات المضربة والخصوم السياسيون للحكومة إلى أن مزيداً من إعادة التوزيع كافية، حتى في واحدة من أعلى البلدان في الضرائب في العالَم الغني، مما أدى إلى ردود فعل محيرة في إسبانيا، حيث اتخذت النقاباتُ نهجاً أكثر انفتاحاً في المفاوضات مع منظمات أصحاب العمل.
ولا تحظى إصلاحات نظام التقاعد بتأييد دائماً، فحتى يمين الوسط الفرنسي الذي كان ينبغي أن يكون حليفاً طبيعياً لإصلاح التقاعد، لم يتمكن من الاتفاق على دعمه. لقد كانت فئة الرؤساء التنفيذيين متقاعسة بشأن هذه المسألة، كما أخبرني أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في بنك باريس، قائلاً إن هذه الفئة نادراً ما تتحلى بشجاعة المجاهرة برأيها. ودعا جيفروي رو دي بيزيو، رئيس جماعة «ميديف» الناشطة لرجال الأعمال، إلى إصلاح المعاشات التقاعدية، لكنه انتقد إجراءات تشجيع توظيف العمال الأكبر سناً.
على عكس ما شهدته لندن في خمسينيات القرن التاسع عشر، والذي حمل رائحة فرص تحسين أنظمة الصرف الصحي بعد تضاعف عدد سكان المدينة، فما نواجهه الآن يمثل أعراضَ التدهور الديموغرافي والحضري. وكل هذا شنف آذان اليمين الشعبوي الذي خاض حملةً من أجل سن تقاعد تبلغ 60 عاماً فقط. ويجب أن يكون هذا هو الحافز لماكرون بغية إزالة السموم من قضية المعاشات التقاعدية، وهو ما لم يستطع أي من أسلافه الإقدام عليه، من خلال تقديم مزيد من السلطة للمنظمات الجديدة، بما في ذلك أرباب العمل واتحادات الموظفين. وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فإن إيقاف «chienlit» والعودة إلى مسار الإصلاح يستحق المخاطرة.
*صحفي متخصص في الشؤون الأوروبية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»