«تصفير المشكلات»: قراءة في فكر الشيخ محمد بن زايد
تأكيداً لعزم دولة الإمارات العربية المتحدة، في ظل قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، القائد الأعلى للقوات المسلحة -حفظه الله- على مواصلة أداء دور محوريٍّ في الهندسة الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط، وإعادة هيكلة سياساتها باتجاه ضمان الاستقرار، وحماية الدولة الوطنية، وتعزيز الازدهار والتنمية - أعلن معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، أن تعزيز الجسور، وتصفير المشكلات، والبناء الجاد للمستقبل، تمثل خيار الإمارات الاستراتيجيَّ الأول الذي لا حياد عنه.
ويعكس هذا الخيار، الذي يدرك هذا الارتباط الحتمي بين الازدهار بأبعاده المختلفة، وضرورة إرساء الاستقرار، والعمل لتعزيز السلام والتعاون المتعدِّد الأطراف، تمسُّك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بجوهر التوجُّهات الحاكمة للفكر الاستراتيجي لدولة الإمارات، التي أرساها الأب المؤسس المغفور له - بإذن الله تعالى - الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وجسَّدها النموذج التنموي الإدماجي الفريد للدولة، الذي ارتقى بها في عقود قليلة من دولة ناشئة إلى إحدى القوى المؤثرة بفاعليَّة في صنعِ السياسات الإقليمية، بل - من دون مبالغة - في صياغةِ التوجهات العالمية في عدد من الفضاءات التي تسهم في تحقيق الاستقرار الدولي، وتمثل أهمية عليا للإنسانية، ولعل علوَّ شأن الإنسانية، وتعزيز قيمة التسامح، خير شاهد على ذلك التأثير في تلك الفضاءات. ويمثل هذا التمسك بخيار «تصفير المشكلات» إعلاناً جليّاً لنجاح سياسة المواجهة الحازمة، التي انتهجتها الدولة في مواجهة عدد من التحديات البارزة التي تعرَّضت لها المنطقة منذ عام 2011، ولعل أبرزها: صعودُ مشروع التمكين «الإخواني»، الذي لم يكن يقتصر على تلك الجماعة الإرهابية، ولكن شمل أيضاً مجموعة من الدول الراعية لهذا المشروع في العقد المنصرم، وبروز التهديد «الحوثي» لاستقرار اليمن وشرعية الحكم فيه، وأخيراً، وليس آخراً، تنامي الخطر الإرهابي بأطيافه المختلفة عبر المنطقة.
ولم تكن هذه المواجهة الحازمة للتهديدات، التي طالت استقرار المنطقة، وسلامة الدول الوطنية فيها مع مطلع العقد الماضي، إلا الاستثناء، الذي يؤكد جوهر الأهداف الاستراتيجية للدولة، ويؤكد تنوع خياراتها وقدراتها التي يمكنها اتباعها لتحقيق هذه الأهداف. وتعكس هذه القدرة على تنويع الخيارات السياسية، وتوظيف قدرات مختلفة، الركيزة الجوهرية الثانية في الفكر الاستراتيجي لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وهي ضرورة بناء القوة الشاملة للدولة، وهو التوجه الذي برز منذ وقت مبكر مع توليه منصب رئيس أركان القوات المسلحة للدولة عام 1993. واليوم، ونحن نتطلَّع إلى المشهد الإقليمي من حولنا، يمكن أن نتبين بوضوح انتصار رهانات الإمارات في كل الملفات التي اختارت مواجهتها بأدوات القوة الحاسمة والحازمة: هُزِم مشروع «الإخوان» ورهانات الأطراف الراعية له، وبدأت جميع هذه الأطراف في تعديل سلوكها، وتم احتواء الخطر «الحوثي» على بقاء الدولة اليمنية، وانحسر حجم الجماعة في كونها مجرد طرف من أطراف الصراع الذي تتسارع محاولات حلِّه دبلوماسيّاً، وانهارت دولة «داعش» الإرهابية، وانهارت معها محاولات توظيفها لخلخلة بنية الدولة الوطنية في منطقة الشام والعراق.
وبعبارة أخرى: باتت المنطقة، بفضل سياسة المواجهة الحازمة التي انتهجتها الدولة، مؤهلةً لفرصة جديدة لاستعادة مسار السلام والتعاون المعزِّز لفرص النمو، فيما بات هذا التعاون الإقليمي هو الأجدر باحتواء ما بقي من عوامل تهديد محدودة ومنخفضة الحدَّة.
وبقدر ما يؤكد خيار «تصفير المشكلات» ركيزتين أساسيَّتين من ركائز الفكر الاستراتيجي لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وهما التمسك بالنموذج التنموي الإماراتي الفريد المستند إلى ربطٍ مبدعٍ وخلاقٍ بين تمكين سياسات الاستقرار والسلام الإقليميَّين، وتعزيز فرص التنمية العادلة للجميع، وترسيخ استراتيجية مستدامة لبناء القوة الشاملة للدولة، فإن إعلان هذا الخيار يكشف - في ضوء ما تم بيانه من تطور السياسة الإقليمية للدولة عبر مرحلة الاضطراب الإقليمي - عن جوانب أخرى مهمَّة في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أبرزها:
1- الواقعية التي تعي أن معطيات السياسة هي موضوع للتغير المستمر، وأن كل موقف ينبغي أن يقدَّر بقدَرِه، من دون الاستغراق في سياسات جامدة تؤدي إلى استنزاف القدرات من دون طائل أو مردود يوازي التكلفة.
2- البراجماتية والعقلانية اللتان تعكسان إدراكاً ووعياً عميقَين بأن تحقيق كفاءة توظيف موارد الدولة إنما يستند إلى تنويع القدرات والخيارات التي تتيح مرونة عالية في تبني سياسات مختلفة تضمن تحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل قدر من الأعباء والتكاليف.
3- ازدهار الإنسان وأمنه، حيث يتجلَّى ذلك، على المستوى الداخلي، مع توالي الشواهد على أن الهدف النهائي لكل هذا الجهد التنموي المتواصل، ولكل سياسات بناء القوة الشاملة، إنما يستهدف ضمان استمرار ازدهار الإنسان على أرض الدولة، مواطناً كان أو وافداً، وحماية أمنه من كل عناصر التهديد التقليدي وغير التقليدي.
4- حماية المصالح العليا للدولة، وتعزيز مكانتيها الإقليمية والدولية، ويُعَدُّ هذا الهدف القيمة العليا في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حيث يمكن بوضوح تبيُّن أن سياسات الدولة في كل المجالات الداخلية والخارجية تبنَّت خيارات المبادرة والانخراط النشيط حين كانت تتطلَّب حماية مصالح الدولة هذا الانخراط، وتجنَّبت بالمثل الانزلاق إلى أتُّون مغامرات غير محسوبة اندفع إليها العديد من القوى المتوسطة، بل الكبرى عبر المنطقة.
يمكن إجمالًا تبيُّن أن الفكر الاستراتيجي لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان يمزج بجلاء وبقدرٍ عالٍ من الإبداع بين السعي إلى تحقيق مصالح الدولة وأمنها، وضرورات تبنِّي سياسة خارجية متنوعة الخيارات والأدوات، ويستهدف ذلك جميعه في نهاية المطاف هدفين أساسيَّين:
1- ضمان استدامة التنمية في الدولة التي أصبحت مرتبطة ارتباطاً عضويّاً بالديناميات الإقليمية والدولية.
2- استقلالية قرار الدولة، وعدم تبعيتها لأيِّ قوًى في المنطقة، أو خارجها.
ويمثل هذا الفكر الاستراتيجي القدرة المتميزة لصاحب السمو رئيس الدولة على إدراك طبيعة المتغيرات الدولية، وتعدد أدوات اكتساب القوة التي باتت تتيح للقوى المتوسطة أن تمارس أدواراً دولية مهمة وجوهرية، وتضمن لها مكانة دولية رفيعة. وبرغم ما يبدو من أن تواصل إنجازات الدولة، المستندة إلى هذا الفكر، سلس ومتدفق، فإن تطوير هذه المنظومة الفكرية ليس بهذا القدر من البساطة، حيث أخفق العديد من القوى في تبنِّيها بهذا القدر من الإبداع الذي تجسده خبرة نمو الدولة، ومعدلات إنجازها الفريدة في العقود الخمسة المنقضية منذ الاستقلال.