مدفع الإفطار
سيظل شهر رمضان بطقوسه وروحانياته جميلاً وملهماً وجاذباً ليس لنا فقط نحن الكبار، بل للأطفال أيضاً من أبناء هذا الجيل الذين تتفتح مداركهم على ما في هذا الشهر من شعائر وطقوس وأجواء استثنائية لا يعيشونها في بقية أيام العام.
لم أكن أتصور فرحة صغار البيت ومدى شوقهم لسماع صوت مدفع الإفطار وقت حلول أذان المغرب كما هذه الأيام. فمدفع الإفطار يذكّرهم بأنهم بعد سماع أصوات طلقاته سيأكلون ما يلذّ لهم ويطيب، سواء أكانوا صائمين أم لا، لأن المهم بالنسبة لهم أن يجتمعوا مع أفراد الأسرة حول مائدة الإفطار، ويشيعوا أجواء البهجة التي تدفع المرء للتفاعل معهم ومشاركتهم فرحتهم التي يعبرون عنا بها بأساليبهم اللطيفة، وهو ما أشعر به تماماً حينما يشاركونني الإفطار.
أذكر من سنوات طفولتي أنّي كنت ورفاقي نذهب للمسجد لأداء صلاة العصر وقراءة القرآن وسماع درس الإمام، وما إن ننتهي حتى ننطلق نحو بيوتنا مسرعين والشمس تميل نحو الغروب، فنظل نرقبها حتى تكاد تختفي لينطلق بعدها صوت دوي طلقات مدفع الإفطار ومن ثم صوت المؤذن. كنا نحن الصغار نتبع ما يفعله الكبار أمامنا، فنردد دعاء الإفطار، ونكتفي ببضع تمرات وشربة ماء، ثم نذهب إلى المسجد لأداء صلاة المغرب، وبعدها نعود ليبدأ إفطارنا الفعلي. غير أني أبداً لم أسأل عن سر استخدام المدفع للإعلان عن موعد الإفطار، وبالتالي لم أبحث عن الأمر حتى عندما كبرت، إلى أن سألني الأطفال عن ذلك مؤخراً، وسؤالهم هذا اضطرني للبحث عن المعلومة التي ضلّت عني أو ضللت عنها.
المصادر تقول إن الأذان في شهر رمضان كان الوسيلة الوحيدة للإعلان عن موعدي الإفطار والإمساك. لكن قبل الفجر كان هناك أذانان، الأول يرفع قبل طلوع الفجر وهو موعد السحور، والثاني أذان الإمساك عند طلوع الفجر.
المسلمون في عصور لاحقة ابتكروا وسائل مختلفة إلى جانب الأذان للإشارة إلى موعد الإفطار، ومن بينها المدفع الذي بدأ استخدامه – كما تشير المصادر - منذ حوالي 570 عاماً، وذلك بما يسمح للسكان على مسافة عدة كيلومترات معرفة أن موعد الإفطار قد حان. صحيح أن الناس اختلفوا على تاريخ ومكان بدء هذا الطقس، إلا أنّي مع الرأي الذي يقول إن القاهرة هي أول مكان استخدم فيه المدفع في رمضان، نظراً لاتساع الرقعة المسكونة في القاهرة آنذاك. وبالرغم من أن القاهرة اتسعت كثيراً جداً، إلا أن طقس المدفع لا يزال موجوداً حتى اليوم وقت الإفطار والسحور. وأغلب الظن أن الإماراتيين عرفوا طقس مدفع الإفطار في ستينيات القرن الماضي، وكانوا يسمونه «الراوية» لارتباطه بشرب الماء. أما أول مدفع استُخدم فيها لغرض الإعلان عن موعد الإفطار فقد كان في إمارة الشارقة.
مثل دول عربية كثيرة، غاب مدفع الإفطار في الإمارات عدة سنوات، مثلما غابت طقوس رمضانية كثيرة، بسبب تغير نمط الحياة وتطور وسائل الإعلام التي أفسحت المجال للتلفزيون بتصدر المشهد، غير أن إعادة إحياء استخدام مدفع الإفطار في الإمارات أحيت ذاكرة الكثيرين. وباعتقادي أن تلك المسألة أعادت إلى الحياة أيقونة رمضانية جميلة للغاية، ترسم البسمة على الوجوه، وتضفى الحميمية بين الصائمين صغاراً وكباراً. كما أظن أن مثل هذه التفاصيل الصغيرة التي تليق بأجواء ليالي رمضان تسهم في تشكّل وجدان الأجيال، وتعمق إحساسهم بأهمية الطقوس في حياتنا رغم تغيرها وتسارع أحداثها، لكن يبقى رمضان شهراً يختلف عن بقية شهور السنة بأيامه ولياله المليئة بالتفاصيل التي تجمع بين الأسر والجيران والأصدقاء.