التلوث والانتحار
من الثوابت العلمية أن الهواء الملوث يزيد من نسبة الأزمات القلبية والأمراض الصدرية، وأنه في أقل الحالات سوءاً يشكل أحد مصادر الخمول وتراجع التركيز الذهني وقلة الإنتاج في العمل.
غير أن الأبحاث الطبية الحديثة أثبتت أن الهواء الملوث يتسبب في مخاطر أكثر من ذلك، وأنه أحد أسباب تعكر المزاج الشخصي والإقدام على الانتحار.
وقد قام العلماء بدراسة العلاقة بين نسبة الجزئيات الملوثة في الهواء، والتي لا يزيد حجم الواحدة منها على 5.2 ميكرون، ونسبة الإقدام على الانتحار، فوجدوا أن تلوث الهواء يعكر مزاج الإنسان وأنه يحمل البعض على التفكير بالانتحار، وحتى على الانتحار فعلاً. فالجزئيات الصغيرة بعد أن تدخل عبر الرئتين إلى مجرى الدم في الأوردة والشرايين، تؤدي إلى حالة نفسية ترفع معدلات الرغبة في الانتحار بنسبة 50 بالمائة.
وأثبتت الدراسات العلمية أيضاً أن نسبة العلاقة بين التلوث والانتحار ترتفع في الدول أو المجتمعات الفقيرة حيث البطالة وسوء التغذية. كما ترتفع هذه النسبة في الدول التي ينتشر فيها السلاح، مثل لبنان، وفي تلك التي تبيح قانونياً امتلاك الأسلحة الفردية، كالولايات المتحدة، حيث يجد المصاب بالتدهور المزاجي سهولةً في الوصول إلى السلاح واستخدامه ضد نفسه، لدى تعكّر مزاجه نتيجة للتلوث.
وأثبتت الدراسات كذلك أن استنشاق هواء ملوث يؤدي إلى التهاب في أعضاء الجسم، بما في ذلك المخ، وهو أسوأ أنواع الالتهابات التي يمكن أن يتعرض لها إنسان نظراً لمضاعفاتها السلبية والخطيرة على الوعي وعلى الذاكرة. ويعتقد الأطباء أن الالتهاب الفيروسي نتيجة تنفس هواء ملوث يؤدي أيضاً إلى انغلاق الممرات داخل مخ الإنسان، وهي الممرات التي تنظم حالتَه المزاجية.
ولعل أغرب إحصائية علمية تتعلق بهذا الأمر، تلك التي تؤكد أنه يمكن إنقاذ حياة أكثر من مائة ألف إنسان سنوياً يذهبون ضحيةَ مضاعفات الهواء الملوث عبر الانتحار وحده، إذا ما خُفضت نسبة التلوث إلى خمسة ميكروغرام في المتر الواحد!.. ثم إن الموت انتحاراً لا ينتهي بمأساة المنتحر، بل أن المأساة تستمر في عائلته وحتى في مجتمعه.
تقول منظمة الصحة العالمية إن معدل التلوث يجب أن لا يزيد على هذه الخمسة ميكروغرامات. غير أن هذه النسبة مضاعفة في المدن الأميركية. وهي أكثر من ذلك في بعض الدول النامية، مثل الهند ومصر، وفي بعض الدول المتعثرة مثل لبنان وسريلانكا.
وتقول المنظمة أيضاً إنه إذا التزمت هذه الدول بمعايير السلامة العامة المتعلقة بنظافة الهواء، فمن شأن ذلك إنقاذ حياة 770 إنساناً يَقدمون على الانتحار سنوياً نتيجةً لهذا العامل تحديداً. وإذا كان العالَم قد أجمع على التحذير من خطر تدخين السجائر على صحة الإنسان الفرد، فإن تلوث الهواء يشكل خطراً أدهى وأمرّ على صحة الجماعة من الناس. التدخين يقتل إفرادياً والتلوث يقتل جماعياً. والقرآن الكريم يقول: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً.. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً».
إن إنقاذ حياة إنسان واحد، ولو من نفسه، هو بمثابة إحياء للإنسانية جمعاء.
درس العالِمان الأميركيان دافيد ماركوث وكلوديا بيرسيسكو، وهما من جامعة واشنطن، ظاهرةَ الانتحار في الولايات المتحدة بين عامي 2003 و2010، واكتشفا العلاقةَ المباشرة بين التلوث والانتحار. ومن أجل ذلك يمكن أن تكون عملية الإحياء بحماية النفس الإنسانية من الآخرين.. كما يمكن أن تكون بحمايتها من ذاتها أولاً وفي الدرجة الأولى.
*كاتب لبناني