سويسرا وتحولات القطاع المالي
السقوط الدراماتيكي لبنك «كريدي سويس» في ذراعي بنك «يو بي إس» بسعر مخفض ليس سوى أحدث فصل في مسلسل معاناة سويسرا كمركز مالي منذ نهاية السرية المصرفية قبل قرابة عقدين. فخلال معظم القرن العشرين كان كلما ازدادت الحروب والمخاطر الجيوسياسية وضوابط الصرف الأجنبي، كلما عمد الأغنياء والنافذون إلى تخبئة ثرواتهم في الخزائن السويسرية.
وكان جلب الأموال شبيهاً بما سماه أحد المنبهين «هندسة اجتماعية مع هامش ربح». وبعد ذلك، غيّرت أزمتا 11 سبتمبر وبنك «ليمان براذرز» الأشياء للأبد، حيث تم إنقاذ بنك «يو بي إس» وقتل الضغطُ الدولي السريةَ المصرفية بألف طعنة.
والنتيجة كانت أن المؤسسات السويسرية الحذرة سابقاً – مثل «كريدي سويس»، صدق أو لا تصدق – اضطرت للعمل بجدّية أكبر والتنافس أكثر في القطاع على الأعمال حتى في الوقت الذي كانت فيه سوقها المحلية تتعرض لفضائح ولغرامات من الجهات التنظيمية. وخلال الفترة ما بين 2008 و2017، اختفت أكثر من 50 علامة مصرفية سويسرية، وانخفض وزن القطاع المالي في الناتج المحلي الإجمالي تحت 10٪ من 12٪، وفقاً للكاتب إيف جينيه. كما تراجعت زيوريخ الأصغر والأكثر تواضعاً في ترتيب المراكز المالية العالمية، حتى في الوقت الذي تشبثت فيه بمكانتها الريادية بالنسبة للثروات الخارجية في وقت ازدادت فيه آسيا شهرة وأهمية وتدهورت فيه العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من المحاولات السويسرية للتنافس مع لوائح وقوانين تنظيمية أكثر مرونة، إلا أن البلاد تجذب عدداً أقل من الشركات متعددة الجنسيات مما كانت تفعل من قبل، كما أنها تسجل تأخراً في تبني الأدوات التكنولوجية.
ولعل هذا ما حدا بالمحامي المصرفي كارلو لومبارديني إلى القول إن القطاع المالي السويسري يعاني من «الجمود». التقلص السويسري الكبير من المحتمل أن يتواصل، حتى وإنْ كان ذلك يبدو متناقضاً نوعاً ما مع كيان «إنه حقاًّ أكبر من أن يفشل» التي يخرج في زوريخ من رماد «كريدي سويس».
وحتى في حال ظفر منافسون محليون مثل «بينك بيكتي آند سي» أو «يوليوس باير» بحصة من «يو بي إس – سي إس»، إلا أن تحول الأصول إلى آسيا من المتوقع أن يؤدي إلى تجاوز هونج كونج لسويسرا باعتبارها أكبر مركز مالي خارجي في العالم بحلول 2025، وفقاً لشركة الاستشارات «بي سي جي».
ومن جهة أخرى، فإن عملية استحواذ «يو بي إس» مليئة بعدم اليقين. ذلك أن حاملي السندات المتأثرين يشيرون إلى خصم مستمر على ديون البنوك السويسرية، ورئيس الاستثمار في شركة «أكسيوم» ديفيد بنعمو يقول إن بنية الإنقاذ شكّلت ضربة حقيقية لسمعة البلاد. وفي الأثناء، يدعو السياسيون إلى قواعد وقوانين أكثر صرامة من أجل تقليص المخاطر التنظيمية التي يطرحها بنك «يو بي إس» للدولة السويسرية. وخفض الوظائف يبدو حتمياً ولا مناص منه، بينما أخذ المستثمرون الشرق أوسطيون يديرون ظهورهم للبنك.
المتفائلون يحاججون بأن هذه العراقيل يمكن التغلب عليها. فسويسرا ما زالت تتمتع بمصداقية على شكل الفرنك السويسري، وبمعدل تضخم يعادل نصف معدل التضخم عند جيرانها الأكبر. ثم إن مركزاً مالياً أصغر حجماً هو أيضاً مشكلة عالم أول: ذلك أن زيورخ تظل مدينة آمنة وغنية للغاية، و«ساعاتيو» جنيف ما زالوا يصدّرون ساعاتهم التي تعرف إقبالاً كبيراً. ويرى الأستاذ ديفيد باخ، من المعهد السويسري لتطوير الإدارة، أيضاً أن السرعة التي هبّت بها السلطات السويسرية إلى إيقاف النزيف في بنك «كريدي سويس» ستساعد سمعتها على المدى الطويل.
غير أن نقطة التحول الرئيسة قد تكون جيوسياسية، ذلك أن بيرن تتعرض لضغوط من بروكسيل بشأن إطارها الثنائي للوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة، حيث ترغب «القارة القديمة» في مزيد من المواءمة التنظيمية.
وفي الأثناء، تبدو الولايات المتحدة صريحة ومباشرة بخصوص الحياد السويسري وسط الحرب في أوكرانيا، إذ تمنع بيرن شركاءها من تزويد كييف بذخيرة سويسرية الصنع. ومع ظهور تصدعات جديدة في القطاع المالي السويسري، من المرجح أن يواصل الضغط الأجنبي الازدياد – مع احتمال أكبر لأن تكون أيام عدم الكشف عن الهوية والحياد قد باتت معدودة. هذا لا ينبغي أن يكون قاتلاً لمركز سويسرا المالي. ولكنه يتيح اختياراً ممكناً بين مستقبله كمركز مالي أقل مركزية أو مستقبل أكثر اندماجاً في قاعدة داخلية مثل الاتحاد الأوروبي – على غرار لوكسمبورج مثلاً.
*كاتب فرنسي
متخصص في شؤون الاتحاد الأوروبي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن».