أوروبا بين أزمتي الطاقة والركود
بعد مرور عام على انطلاق الحرب الأوكرانية، تمكنت أوروبا من تجنب السيناريو الأسوأ لركود وحشي مدفوع بنقص الطاقة. فقد عاد سعر الغاز الطبيعي إلى مستويات ما قبل الحرب وعاد إنتاج المصانع للنمو مرة أخرى، ويعلن زعماء مثل أورسولا فون دير لاين انتصارهم على روسيا التي «خسر حرب الطاقة».
ويبدو الآن أن أوروبا خاطرت بتجنب ركود لكي تواجه ركوداً آخر صنعته بنفسها: زيادات في أسعار الفائدة من جانب محافظي البنوك المركزية القلقين، حيث بلغ معدل التضخم «الأساسي» في منطقة اليورو، باستثناء الطاقة والغذاء، أعلى مستوى له على الإطلاق عند 5.6% في فبراير الماضي، ويبدو أن البنك المركزي الأوروبي مستعد لرفع أسعار الفائدة إلى مستوى قياسي يبلغ 4%. ويكمن الخوف في أنه من دون هذا التشديد الإضافي للسياسة النقدية، ستبدأ حلقةٌ مفرغةٌ جديدة من ارتفاع الأسعار، مدفوعةً بالأجور.
وقد يخطئ صانعو السياسة كثيراً فيما يتعلق بفرض العقوبات، تماماً كما أخطأوا كثيراً في عام 2021 في شعورهم بالرضا عن النفس عندما بدا التضخم «مؤقتاً». لقد تمكن اقتصاد منطقة اليورو من تجنّب الركود حتى الآن، لكنه لا يحقق ازدهاراً، كما كتب الاقتصاديون في بنك باركليز الأسبوع الماضي. مؤشرات مديري المشتريات بالكاد تحقق توسعاً، حيث انكمش الاقتصاد الألماني بنسبة 0.4% نهاية العام الماضي، أكثر مما كان متوقعاً. وتقترب البطالة من أدنى مستوياتها على الإطلاق، لكنها ارتفعت في العديد من البلدان، بما في ذلك إسبانيا وإيطاليا. وتقول كريستين لاجارد، مديرة البنك المركزي الأوروبي، إن القصد ليس «كسر الاقتصاد» برفع أسعار الفائدة، لكن الفجوات ظاهرة بالفعل. وقد تراجعت توقعات المستهلكين بشأن التضخم المستقبلي في منطقة اليورو بشكل ملحوظ.
لم يكن «الفوز» الذي تحقق العام الماضي ضد ارتفاع أسعار الطاقة على أساس استراتيجية خفض الطلب وخفض مستويات المعيشة والاستثمار، يشبه إلى حد كبير الخفض بالنسبة للمستهلكين والشركات مثل شركة بي إيه إس إف BASF (شركة كيميائية ألمانية متعددة الجنسيات). وإذا كان قد تم تجنب الركود، فلم يكن ذلك بسبب التوقيت الدقيق لمحافظي البنوك المركزية، ولكن لأن الدول بذلت جهوداً ضخمة في الإنفاق - بقيمة تقترب من تريليون دولار - لحماية الأسر وتسهيل تقليل الاعتماد، الذي تقوده ألمانيا، على الغاز الروسي. سيكون تكرار هذا الإنجاز في عام 2023 بمثابة صراع، كما يشير زميلي خافيير بلاس. تتم تنحية قاذفة الإنفاق جانباً، بينما ترتفع تكاليف الاقتراض.
وبطبيعة الحال، لا يزال التضخم الرئيسي مرتفعاً بشكل مؤلم، حيث بلغ 8.5%، على الرغم من تباطؤه مؤخراً. إن انخفاض القوة الشرائية يعني أن الأوروبيين يأكلون أقل، وليس فقط يحصلون على تدفئة أقل: انخفض متوسط استهلاك الغذاء بنسبة 4.6% العام الماضي في فرنسا، وهو أمر لم نشهده منذ أن بدأت السجلات في عام 1960. ويعتقد صقور التضخم أنه من دون تدخل قاسٍ في المعدلات، فإن تأثيرات مساعدات الطاقة المذكورة أعلاه ستتسرب إلى بقية الاقتصاد، من ارتفاع الأسعار إلى ارتفاع الأجور. وعلى سبيل المثال، وافقت شركة انديتكس، المالكة لشركة «زارا»، مؤخراً على زيادة أجور عمال متجرها في إسبانيا بنسبة 20%.
لكن مثل هذه الارتفاعات تحتاج أيضاً إلى وضعها في السياق. وكانت الشركات سريعة بشكل ملحوظ في رفع الأسعار: فقد ارتفع إجمالي هوامش الربح، التي تشير إلى قوة التسعير، في المتوسط العام الماضي لأكبر الشركات في منطقة اليورو. وفي يونيو الماضي، أعلنت شركة انديتكس عن هامش إجمالي قدره 60%، وقد تفاخرت إدارتها بأنه الأعلى في عقد من الزمان. وفي غضون ذلك، لم تواكب رواتب العمال التضخم.
وإذا كانت المشكلة المطروحة تبدو أقرب إلى قوة تسعير الشركات، بدلاً من زيادة طلب المستهلكين، فستكون هناك حاجة إلى نقاش جديد وأدوات مختلفة. قال إجنازيو فيسكو، من البنك المركزي الأوروبي، إن البنك «سيراقب عن كثب» ما إذا كانت الشركات التي رفعت الأسعار العام الماضي ستنتقل الآن إلى خفض تكاليف الطاقة. البشائر ليست رائعة خلال العام الماضي، ووفقاً لشركة بيبسي، فإن مسألة «تراجع» الأسعار يصعب الرد عليها، ولذا فقد ظل التركيز ظل على العلامات التجارية التي تجذب المستهلكين «المستعدين لدفع المزيد». قد تكون الأدوات الأكثر حدة لسياسة الحكومة أفضل من مطرقة الزيادات الحادة في أسعار الفائدة، والتي تَعد بسحق الاستثمار والنمو إلى جانب التضخم.
آخر شيء تحتاجه أوروبا الآن هو الانكماش الذي يحركه البنك المركزي الأوروبي. وفي الوقت الذي تستعد فيه الصين لتصبح المصدر الثاني في العالم لسيارات الركاب، تحتاج أوروبا إلى الاستثمار لتعويض عقد ضائع والبقاء على رأس العقد التالي. ارتفع الاستثمار الأميركي بنسبة 35.9% بين الربع الأول من عام 2008 ومنتصف عام 2022، بينما كان الرقم في أوروبا 4.8%، وفقا لنيكولاس جوتزمان، كبير الاقتصاديين في شركة إدارة الأصول «فينانسيير دي لا سيتي» Financiere de la Cite. كانت الولايات المتحدة أيضاً أكثر جرأة خلال «كوفيد-19»، حيث قامت برفع نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من منطقة اليورو.
وربما سيدرك صانعو السياسة الأوروبيون أن التكامل المالي الوثيق هو المفتاح لتلبية احتياجات الإنفاق، كما ذكر معهد «إلكانو رويال». لكن قد يكون من المفيد أيضاً محاولة اتخاذ موقف أكثر حذراً من جانب محافظي البنوك المركزية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سينديكيشن»