الليبرالية ضد الليبرالية
«فردريك سان كلير» فيلسوف ومفكر سياسي فرنسي، عمل مستشاراً لرئيس الحكومة الأسبق «مانويل فالس»، وأصدر في الآونة الأخيرة كتاباً مثيراً بعنوان «متاهات الليبرالية»، ذهب فيه بوضوح إلى أن عصر الرأسمالية الفردية والليبرالية الديمقراطية في الغرب دخل في نفق مسدود.
وبالنسبة لسان كلير، فقد أظهرت الحربُ الأوكرانية الحالية عقمَ وخطرَ المشروع الليبرالي الغربي القائم على الفردية الذاتية مقابل الهويات الجماعية المشتركة، وعلى نموذج البورجوازي المستهلك مقابل الأورستقراطي المحارب، وعلى السيادة القانونية المجردة مقابل سيادة الدولة الاستثنائية الحرة. لقد اعتبر المؤلفُ أن الحداثةَ السياسيةَ تأسست في الغرب على عقد السلم المدني باحتكار الدولة للعنف الشرعي، وما يحدث اليوم هو أن الدولة المدنية لم تعد قادرةً على تأمين المجتمع اقتصادياً ولا صحياً ولا عسكرياً.
والسبب الأساس في هذه الوضعية، حسب سان كلير، هو وهْم الاستغناء عن المقومات والمرجعيات الحضارية واستبدالها بالمنافع الاقتصادية والتواصل التقني. وفي مقابل المتاهات التي تعاني منها الليبرالية الغربية، تَعرف روسيا والصين صعوداً مذهلا، يرجعه المؤلفُ إلى تمسكهما بمبدأي الهوية الحضارية والقوة الخشنة.
ليست هذه الأطروحة نشازاً في الفكر الغربي الراهن، الذي يعرف جدلاً متزايداً حول تركة الليبرالية منذ أن انقشع وهم «العولمة الرأسمالية السعيدة» وتمددت المنظومة الليبرالية إلى كل أصقاع العالم. المفكر الأميركي الشهير «فرانسيس فوكوياما» الذي عرف بنظريته حول «نهاية التاريخ»، والتي بشّر فيها بهيمنة المنظومة الليبرالية دولياً، اعترف في كتابه الأخير «الليبرالية وضروب الاستياء منها» Liberalism and Its Discontents أن الليبرالية تعرف حالياً تحديات عصية غير مسبوقة قد تعرِّضها للانفجار الداخلي. في هذا الكتاب الصغير، يستعيد فوكوياما أطروحتَه حول دوافع الاعتراف الذاتي التي طبعت التجربة الليبرالية منذ نشأتها، وأدت إلى تفاقم الصراعات والصدمات الاجتماعية من داخلها.
لقد قامت الليبراليةُ على مرتكزات أربعة أساسية هي: الفردية التي تعني الأولوية الأخلاقية للشخص على الهويات الجماعية القبْلية، والمساواة الجوهرية بين أفراد أحرار، والكونية بما تقوم عليه من فكرة الوحدة الأخلاقية للنوع البشري، وفكرة قابلية البشر للتقدم من خلال المؤسسات الاجتماعية العادلة.
إلا أن الليبرالية عانت دوماً، حسب فوكوياما، من مصاعب تجسيد هذه القيم العليا في هويات قومية مشتركة، تستوعب وتحتضن الوعي بالذات في فرديتها الحرة وحقوقها الاعترافية. وما نشهده اليومَ هو أن مثال التميز والاستقلالية أصبح ينسف الطابع المؤسسي الجماعي للكيان القومي بما يهدد فاعلية ونجاعة المجال العمومي ويعرّض الدولةَ الوطنيةَ السياديةَ للتفكك والانهيار. ويرى فوكوياما أن الجناحين اليميني واليساري في المنظومة الليبرالية مسؤولَان عن هذا الشطط، سواء من خلال اختزال الحرية الفردية في الاعتبارات الاقتصادية الاستهلاكية أو في التميز المجموعاتي من خلال الهويات الخصوصية المتمايزة.
وبطبيعة الحال، يدعو فوكوياما إلى إصلاح الليبرالية من الداخل، عن طريق تدعيم المؤسسات العمومية وتوطيد الصلاحيات التنفيذية والسيادية للدولة القومية مقابل العولمة الاقتصادية الكونية المجردة. ونحن هنا أمام أطروحتين مختلفتين حول المنظومة الليبرالية الغربية؛ تنطلق إحداهما من المرجعية النقدية الحضارية للتجربة الرأسمالية الفردية من حيث كونها ألغت مقومات الوجود القيمي والمجتمعي المشترك من منظور النزعة العقلانية النفعية المجردة، في حين تنطلق الأخرى من مميزات ومكاسب الحداثة الليبرالية في الرفاهية الاقتصادية وتكريس حقوق الإنسان وبناء دولة المواطنة المتساوية، مع الإقرار بضرورة إصلاحها من الداخل لمواجهة مخاطر الفردية الانكفائية وتنامي النزعات الهوية الخصوصية.
ونلمس هنا حواراً متجدداً بين نمطين تاريخيين من الليبرالية: الليبرالية اليمينية والقومية التي تجمع بين نسق الحقوق والمؤسسات والقيم الحضارية المحافظة، والليبرالية اليسارية التي تركز على الطابع الكوني الإنساني الشمولي لمفاهيم الحرية والمساواة في إطار التحول نحو العالمية والسيادة المتقاسمة المشتركة.
إن هذا التصادم بين نمطي الفكر الليبرالي هو الذي يشكل اليوم ديناميكية الديمقراطيات الليبرالية الراهنة، حيث يشتد الصراع بين التيار المحافظ الذي يتبنَّى الدعوةَ إلى الهوية الحضارية والقومية وسيادة الدولة وقوتِها، والتيار اليساري الذي يرى أن الأفق الجديد لمشروع التحرر الليبرالي هو الأفق الإنساني الشامل وليس الكيانات الوطنية الضيقة التي لم تعد تنسجم مع منطق الاستقلالية الفردية في حدودها القصوى ومع معايير العولمة الموحدة.
سمعنا في السنة المنصرمة الرئيسين الروسي والصيني يستخدمان عبارة «نهاية النظام الليبرالي العالمي» بنفس الألفاظ التي تعني قابلية ترجمة تركة الحداثة الإنسانية في منظور قيمي مغاير لليبرالية الغربية. وما أكدته التحولات التي مر بها العالم منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية هو أن الحوار الجذري وصل بالفعل إلى داخل المنظومة الليبرالية نفسها.
*أكاديمي موريتاني