أبو حيان التوحيدي بعد ألف عام
كان القرن التاسع عشر هو قرن الحداثة في العالم العربي، ومنذ مطلع ذلك القرن هناك نخب ثقافية رفيعة المستوى تطرح الحداثة الأوروبية كنموذج للعمل، وطريق للمستقبل.
أطلق بعض المفكرين العرب مصطلح «الحداثة العربية».. على ما يجمع بين الشرق والغرب، الأصالة والمعاصرة، الدين والحرية. وعاد مفكرون آخرون ببداية الحداثة العربية إلى أكثر من (800) عام قبل ذلك، إذْ يذهب الفيلسوف الجزائري محمد أركون إلى أن الموسوعي العربي «أبو حيان التوحيدي» و«مسكويه» كانا حداثيين، وأنهما من بين القادة الأوائل للحداثة.
ولد أبو حيان التوحيدي في بغداد عام 922 ميلادية، ورحل عام 1023.. لقد مرّت (1000) عام على رحيل المفكر الذي وُصِف بأنه «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء». كان القرن الرابع الهجري مضاءً بقامات شامخة في العقل العربي، ويمكن اعتبار ذلك القرن هو فجر الحداثة الإسلامية. في القرن الرابع الهجري جاء الفارابي الملقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، كما جاء الحسن بن الهيثم أعظم علماء المسلمين على مر العصور.
ولقد مهد هؤلاء إلى ظهور ابن سينا والماوردي وابن حزم والغزالي وابن باجة.. في القرن الخامس، ثم ابن رشد في القرن السادس الهجري. نشأ أبو حيان التوحيدي يتيماً فقيراً، وقد ساعده العمل في «الوراقة»، حيث يقوم بنسخ الكتب وبيعها، في أن يثقف نفسه بنفسه، ويطلع على الخريطة المعرفية لعصره.
للتوحيدي عدد من المؤلفات ذائعة الصيت.. أبرزها: «الامتاع والمؤانسة» و«البصائر والذخائر» و«الهوامل والشوامل».. و«الإشارات الإلهية» و«الصداقة والصديق».. وكتابه «المقابسات». يعتبر كتابه «الإمتاع والمؤانسة» موسوعة اجتماعية وثقافية تضيئ على مكانه وزمانه، ويشتمل كتابه «الهوامل والشوامل» على أسئلة بعث بها التوحيدي للفيلسوف «مسكويه» أسماها «الهوامل»، وعلى إجابات مسكويه وأسماها «الشوامل». ويؤرخ كتابه «المقابسات» لحقبة ثرية من تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، وأما «البصائر والذخائر» فيعرض فيه التوحيدي أفضل ما درسَ وحفظ، ويقع في عشرة أجزاء.
أثارت مؤلفات التوحيدي جدلاً واسعاً، وذهب ابن الجوزي وابن حجر العسقلاني إلى الطعن في دينه. ولكن الإمام النووي امتدحه، كما امتدحه تاج الدين السبكي وياقوت الحموي، وقالوا بحسن إسلامه، وصحة عقيدته.
إن ما جعل «أركون» يضع التوحيدي كأحد مؤسسي الحداثة قبل قرون من عصر الحداثة الغربي، هو انشغال التوحيدي بالإنسان كإنسان، ومقولته الشهيرة «الإنسان أشكل عليه الإنسان»، وإيمانه بالحرية والتسامح واحترام الآخر وتمكين العقل. كان المشروع الفكري للتوحيدي ومناقشته لقضايا «الإنسان»، واعتبارها صلب مشروعه، هو بالضبط جوهر الحداثة، فالحداثة - حسب أركون - ليست معاصرة زمنية، بل موقف فعلي، قد يوجد في أقدم العصور، ولا يوجد بين معاصريه. والنزعة الإنسانية «هيومانيزم» ليست حكراً على الغرب، فحداثة التوحيدي السابقة على الغرب هى حداثة عربية إسلامية إنسانية، نبعت من الشرق وليس الغرب.
إن احترام العقل وتوقير العلم وتثمين المنطق، واحترام الإنسان كإنسان.. ليس رضوخاً لغزو فكري، ولا تبعية ثقافية للغرب، بل استعادة لروح الشرق، وبناء على الإنجازات المعرفية العربية الإسلامية. يحتاج الفيلسوف الكبير أبو حيان التوحيدي بعد ألف عام إلى إعادة قراءته.. وتقديمه من جديد.
* كاتب مصري