بيليه... «ملك» كرة القدم الاستثنائي
حساب الأرقام هو أبسط طريقة لرصد إنجازات «إيدسون آرينتش دو ماسيمنتو»، أو اللاعب البرازيلي منقطع النظير، بيليه. فقد سجل بيليه في عقدين من الزمن 1283 هدفاً على الرغم من أن الرقم الدقيق في بعض الأحيان محل خلاف. فمنها 1000 هدف قبل أن يبلغ الثلاثين عاما و95 منها وهو يرتدي قميص المنتخب الوطني. لقد ساعد في حصول بلاده على كأس العالم ثلاث مرات من خمس مرات حصلت فيها البرازيل على الكأس، وهو إنجاز لا يضاهيه أي لاعب آخر حتى يومنا هذا. لكن كرة القدم ليست سجل تدوين، وسحر بيليه لا تسعه غرفة جوائز. وحين قتله سرطان القولون في نهاية المطاف يوم 29 ديسمبر 2022 عن عمر يناهز 82 عاما، فقدت البلاد جزءًا من روحها. فمن عام 1956 إلى عام 1977، أضفى بيليه أبهة وجلالا على الرياضة الأكثر شعبية في العالم. كما أصبح العلامة المميزة الأكثر استدامة للبرازيل، والنجم السمح بابتسامته المتألقة الذي مثل قوة بلاده الناعمة ومزج في بهجة بين اسم البلاد واسمه.
ولكم أن تسألوا النيجيريين الذين شهدوا المقاتلين في حربهم الأهلية الدموية يلقون أسلحتهم لفترة وجيزة لمشاهدة بيليه أثناء مباراة ودية عام 1969. أو اسألوا جنود حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة بقيادة البرازيل الذين روجوا في عام 2004 ل «مباراة سلام» في هايتي التي مزقتها الحرب، حيث نظموا استعراضا لنجوم منتخبهم الوطني على سيارات مصفحة في شوارع بورت أو برنس، في رهان جريء على هذا النوع من دبلوماسية كرة القدم التي اخترعها بيليه. صحيح أن الهدنة لم تدم طويلا، لكن ظلت هالة بيليه باقية، ليلقى المسافرون البرازيليون هناك حفاوة باستمرار. لكن التأثير الأكثر استدامة لبيليه كان في وطنه. فقد كان أكثر من نجم رياضي، بل كان رمزا لأمة في حالة تحول. نشأ بيليه في عصر كانت فيه البرازيل تنطلق نحو طموحات دولية وصناعة عالمية المستوى.
وبفنونه ومهاراته فوق أرض الملعب، جعل بيليه حركات مستحيلة تبدو سهلة وسدد ركلات نصف دائرية نحو المرمى من زوايا شبه مستحيلة، بالقدم اليمنى واليسرى، ليحول حتى التسديدات الضائعة إلى فن جميل. وبدا وكأنه رمز راقص للثقة والطموح البرازيلي. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، كانت دور السينما البرازيلية تشغل مقاطع ضعيفة الجودة لمباريات كرة القدم الكلاسيكية جعلت الجمهور يهتف «كم هذا رائع!» وكانت هذه الرياضة وذاك الولع هما ميزا البرازيل وبيليه هو الرمز. ولم يستغل بيليه جاذبيته لتحقيق غايات سياسية. فقد أصر على رفض دعوات ترشيحه لمنصب أو حتى الانضمام إلى حزب. وود الجنرالات الذين أداروا البرازيل من عام 1964 إلى عام 1985 لو فعل ذلك. فقد أرادوا أن يضيف بطل حضاري أصيل لمعاناً شعبياً لنياشينهم. وكان من سوء حظ بيليه أن فترة هيمنته على أرض الملعب تزامنت مع انهيار الديمقراطية. ودأب المجلس العسكري الحاكم على الاحتفاء ببيليه وخاصة الجنرال إميليو جارستازو ميديسي، أشد المتشددين تشددا، الذي كان يعد انتصارات بيليه وابتسامته السمحة من المكاسب الجانبية له.
وأدى هذا الاهتمام الشديد اللاعب البطل إلى توجيه انتقادات لبيليه ومقارنات ليست في صالحه، مع محمد علي، معاصره الدولي ونظيره في المكانة الذي جعلته صراحته ضد العنصرية وحرب فيتنام نموذجا للتحدي السياسي وهدفا للحقد الرسمي. وكتب جوكا كفوري، محلل الرياضة البرازيلي المخضرم، يقول إن خوف بيليه ربما «منعه من أن يكون مواطنا أكثر نفوذا مما كان عليه». لكن بيليه كان نجما وليس قديسا. كان بطل كأس العالم في السابعة عشرة من عمره، وبعد فترة وجيزة توجته وسائل الإعلام والمشجعون «ملكا» لكرة القدم. وكان يعشق توزيع التوقيعات والتقاط صور وهو يرتدي تاجا مزيفا. وتحدث عن نفسه بصيغة الغائب. وأنجب سبعة أطفال. خمسة منهم كانوا بجانبه في لحظاته الأخيرة. صحيح أن بيليه لم يعارض الجنرالات قط، لكنه لم يروج لهم أيضا. وصحيح أن قبوله دعواتهم أصابت المعارضة الديمقراطية في البلاد بالإحباط، لكن تصريحات بيليه الأكثر بلاغة كانت دوما على أرض الملعب.
وهكذا تفوقت عظمة بيليه على ملفه السياسي المبهم. ويمكن القول إن ألمعيته في اللعب ساعدت في إصلاح الانقسامات التي أحدثتها السياسة، فحتى المنافسين الأقوياء للجنرال لم يسعهم إلا التوقف عن الشجار لترتفع عقيرتهم بالهتاف عام 1970 حين حصد للبرازيل كأس العالم للمرة الثالثة في مكسيكو سيتي. وبالمقارنة مع البرازيل اليوم، التي مزقها الشقاق الحزبي، كان بيليه عاملا محفزا. وكان أيضا منارة. فقد أخبرني عالم الأنثروبولوجيا البرازيلي روبرتو دماتا ذات مرة أن كرة القدم ليست مجرد مصدر رزق وترفيه، بل لعبة يعرف البرازيليون أنها عادلة ولديها قواعد شفافة ويتم لعبها على أرض متكافئة. وما يهم في الملعب هو الطريقة التي تلعب بها وليس لونك أو حسابك المصرفي أو علاقاتك. وكتب «دماتا» يوم الجمعة 30 ديسمبر 2022 يقول «أصبح بيليه ملكًا لأنه عمل من أجل هذا بوضوح، في ملعب أخضر مفتوح». وفي بلد ممزق اجتماعيًا وغير متكافئ مثل البرازيل، حيث المال هو القوة والسياسة تمثل لعبة خداع دوما، قدم بيليه خيارا آخر. وما زال يمثل هذا الخيار.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنيج آند سينديكيشن»