«دعه يعمل.. دعه يمر»!
في تطور مثير ميز العلاقات التجارية الدولية في السنوات القليلة الماضية، هو عودة الحمائية التجارية بعد قرنين ونصف من المبدأ الذي سار عليه النظام الرأسمالي والخاص بحرية الأسواق من خلال مبدأ «دعه يعمل.. دعه يمر»، المبدأ الأساسي في نظام الرأسمالية الليبرالية الذي تم اعتماده والترويج له، وبالأخص أثناء الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن فرضت دول المعسكر الشرقي الكثيرَ من الرسوم والقيود التجارية بدعوى حماية منتجاتها. التطورات الأخيرة، والتي غيّرت موازين القوى الاقتصادية، فرضت إعادةَ النظر في هذا التوجّه، وبالأخص بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي أثّرت بشدة في أمدادات السلع، بما فيها إمدادات الطاقة.
وقبل التطرق لآفاق هذا التوجه وتداعياته، لا بد من الإشارة إلى جانبين مهمين، الأول أن مبدأ «دعه يعمل دعه يمر» قيل مع بداية انطلاق اقتصاد الآلة وتحوّل المجتمعات الغربية للتصنيع وحاجاتها الماسة للمواد الأولية التي تعتمد عليها الصناعات الناشئة في ذلك الوقت، تلك المواد المتوفرة بغزارة في البلدان الأقل نمواً، إذ تطلبت عمليةُ نقلها حريةَ فتح الأسواق لاستيرادها بتكلفة زهيدة لدعم النمو الصناعي الحديث في الغرب.
أما الجانب الآخر، فقد انطلق من مبدأ «فوكوياما» القائل بنهاية التاريخ والانتصار الذي تحقق في الحرب الباردة من وجهة نظره، مما أدى بالقوى الفاعلة اقتصادياً إلى الدعوة لفتح الأسواق وتحريرها، فالمنتصر هو من يحدد قواعد اللعبة الجديدة، لذلك أعلن عن استكمال اتفاقية «الجات» وتحويلها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 1995، والتي حددت لها مهام إلغاء أو تخفيف القيود التجارية إلى حدها الأدنى.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن! إذ أثبتت الأحداث المتعاقبة خطأ استنتاج «فوكوياما» المتسرّع، فالعالم رغم السقوط المدوي للمعسكر الشرقي ما زال يعجّ بالحروب والصراعات، بل يمكن القول إنها أخطر من تلك التي شهدتها فترة المعسكرين أثناء الحرب الباردة، بدليل المنافسات الاقتصادية المحتدمة والتي فرضت العودة للحمائية التجارية في محاولة للحد من التغيرات الجارية في موازين القوى الاقتصادية.
وتكمن خطورة الحمائية الحالية في كونها تدور في نطاق نظام واحد، حيث نجد بروزَ ظواهرها على أكثر من صعيد، بين الولايات المتحدة والصين، باعتبارهما أكبر اقتصادين، فالغرب يحاول زيادةَ الرسوم الجمركية على وارداته من الصين وتقييد الصادرات من أشباه الموصلات إليها، تلك السلع شديدة الأهمية للصناعات الحديثة، أذ أدرجت الولايات المتحدة مؤخراً 36 كياناً صينياً في قائمة قيود التصدير، في حين ترفض الصين القيامَ بإصلاحات مالية ونقدية يطالب بها الغرب لرفع قيمة العملة الصينية، وبالتالي زيادة أسعار منتجاتها المصدَّرة.
أما في نطاق العالم الغربي ذاته، فإن الإجراءات الحمائية تتخذ أشكالاً مختلفةً وغير مباشرة، فالاتحاد الأوروبي يحتجُّ بشدة ويعبِّر عن استيائه من الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لصناعاتها، وبالأخص للسيارات الكهربائية بدعوى حماية المناخ، والذي عزز من منافسة منتجاتها في الأسواق مقابل المنتجات الأوروبية التي لا تحصل على مثل هذا الدعم، وهو ما ينطبق على المنافسة بين شركتي «بوينغ» و«إيرباص»، حيث ذكرت «بلومبيرغ» أن الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» دعا الاتحاد الأوروبي للتوصل لرد قوي على حزمة الدعم الأخضر الأميركي، معتبراً أنه يوفر ميزةً غير عادلة للصناعات في أميركا الشمالية. كما ضمت اليابان وكوريا الجنوبية صوتيهما إلى الاتحاد الأوروبي، مما تسبب في توتر العلاقات بين هذه الأطراف.
وشملت الحمائية تجارة النفط والمنتجات الأولية الأخرى، بما فيها السلع الغذائية، وهو ما يعني أمرين مهمين، الأول التخلي تماماً عن أحد أهم مبادئ حرية التجارة التي وضعها أبو الاقتصاد الرأسمالي الأسكتلندي (آدم سميث»)، والثاني هو تهميش منظمة التجارة العالمية، والتي تكاثرت لديها الشكاوى من الخروقات القانونية من جانب الدول الأعضاء ضد بعضها البعض، مما يعني أن التجارة الدولية تتعرض لمأزق حقيقي ستكون له تداعيات كبيرة ومؤثرة على التبادل التجاري العالمي في السنوات القادمة.
*خبير ومستشار اقتصادي