الفلسفة والكمال الإنساني
إن ربط الفلسفة بالكمال يعني فصلها عن الضّرورة، وبهذا المعنى الذي يوحي به العنوان يمكن أن يُفهم أن الفلسفة لا توجد في المدن على جهة الضرورة بل توجد على جهة الكمال، ومن هنا فلا حاجة بالمدينة للفلسفة. لكن هل يعني هذا أن ما يوجد على جهة الضرورة أفضل مما يوجد على جهة الكمال؟
إذا كان العمران البشري يقوم على ضرورة الغذاء والسعي إليه، وعلى ضرورات أخرى تُبقي النّوع الإنساني، فإن هذه الضرورات لا تصنع حضارة، إذ الحضارة مرتبطة بالصّنائع والعلوم والفنون، لأنها كمالات ترفع الكائن الإنساني من مستوى الضّرورة إلى مستوى يحقق فيه كمالاته الإنسانية الكبرى إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه، فالإنسان هو إنسان بعقله وقلبه وحدسه، وهو إنسان بكلّ الأدوات المعرفية التي وُهبت له بعد أن أخرجه ربه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وهو إنسان بقدراته الفطرية الهائلة الثّاوية قي أعماقه، والتي ميزته عن غيره من كائنات هذا الوجود «فطرة الله التي فطر الناس عليها»، وعند تحقيق الكمالات يتجسّد للموجود الإنساني وجوده الجميل، وينعم بالحياة الطيّبة التي لا تقوم إلا على الأثافي الثلاث: الحقّ والخير والجمال، ومن هنا أهمية الفلسفة، بمعارفها وأدواتها، بل وضرورتها في تحقيق الكمال الإنساني الممكن.
إن الفلسفة لا تنشأ إلا داخل المدينة، فالفلسفة بنت المدينة، وهي لا تنشأ إلا بعد تحقق جملة من الشّروط، فإذا كانت الفلسفة عند اليونان نشأت في مدينة أثينا، فلأن هذه المدينة الدولة، التي تميزت بساحة الأغورا وما ترمز له من نقاشات سياسية ثريّة، عرفت تراثاً فكرياً غنياً متفرقاً تجمّع لها من الحكماء ما قبل «السّقراطيين»، فأتى سقراط ونظر في التّراث الفلسفي السابق وجعل موضوع الفلسفة هو الإنسان، بعد أن كان موضوعها الوجود، ونظر في المفاهيم وفي السبب الغائي، فكان أن اكتشف بذلك قارّة فلسفة الأخلاق. ليتتابع تلميذاه على «صوفيا» فيبلغا بها أسمى ما وصلت إليه الفلسفة في العالم القديم، حتى إن ابن رشد قال عن أفلاطون وأرسطو إنهما منتهى ما وصلت إليه الإنسانية من كمال عقل. ولولا أرسطو الذي أدخل العقل البشري إلى مجال العقل النظري ما تحرّك قطارُ العلم الذي أوصل الإنسانية اليوم إلى ما وصلت إليه.
وقد وعت المدينة الإسلامية هذا الدّرس، فأسّس المامون «بيت الحكمة»، ونقل إلى اللغة العربية، بخاصة، تراث أفلاطون وأرسطو، فانتقل العرب من العبارة الشّعرية إلى العبارة الفلسفية، وأصبحت الفلسفة، عموما، جزءاً من التّعليم النّظري عند المسلمين حتى وجدنا الغزالي يعتبر العاطل من علم المنطق ممن لا يوثق بعلمه، واختلطت الفلسفة بعلوم الشريعة، وحُقَّ للمسلمين أن يعتبروا أنفسهم أمّة فلسفية، خاصة أن تراثهم الفلسفي أسهم في نهضة الغرب كما يُصرّح بذلك أهله. وقد أسهم ابن رشد، الفقيه الفيلسوف، بمختصراته وجوامعه وتلاخيصه وشروحه، في هذا الأمر الجلل إسهاماً كبيراً كان لتلامذته من الرشديين اللاتين الدور الأكبر في التعريف به وإشاعته بين قومهم، وإن كان الأمر قد تمّ في سياق من تنازع وجدال وتدافع.
نعم، إن الفلسفة توجد في المدينة على جهة الكمال، لكن ما يوجد على جهة الكمال أفضل مما يوجد على جهة الضرورة.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية