هيبة الدول والصراعات الاستراتيجية
في الإمبراطوريات والملكيات قبل صعود الدولة القومية إثر الثورة الفرنسية، كانت شعارات «هيبة الدولة» (Raison D'etat) تدور حول الإمبراطور والعلاقات بين البلاطات، ودعاوى التعرض للأعراف المستقرة بين العواهل والممالك. في الثورة الفرنسية، ومع تصاعد الحديث عن «سلطة الشعب»، بدأت الحملات الدعائية والصراعات الباعثة على الحروب تدور حول التعرض لسيادة الشعب وسلطته.
فالثورة الفرنسية أرادت إحلال نظامٍ جديدٍ محلَ النظام الملكي السائد. ومع أنّ نابليون بونابرت، وبعد أن أعلن نفسَه إمبراطوراً، عاد إلى الثقافة السائدة للملكيات في أوروبا، فإنه عندما تكاثرت الحروب من جانبه وعليه، قام مجدداً بعد معركة أوسترليتز وحربه الخاسرة على روسيا، باستنهاض شعارات الثورة والحديث عن سيادة الشعب الفرنسي وحرياتِه في وجه الممالك الأوروبية التي استضعفته وتحالفت عليه وهاجمته بعد واترلو (1814) في فرنسا نفسها.
أما بعد نابليون، فإنّ الشعار السائد حتى لدى الممالك صار شعار الدول «سلطة الشعب وسيادته». فالذي يعتدي على حدود أي دولة يكون متعرضاً لشعب تلك الدولة وحرياته وسيادته. فألمانيا الموحَّدة بعد عام 1870 استخدمت شعارَ هيبة الدولة في وجه الدول المحيطة التي كانت لا تزال «تحتل» أراضي من ألمانيا القومية. وفرنسا (العائدة إلى الملكية) استثارت عصبيةَ الشعب الفرنسي في مواجهة ألمانيا الغازية.
وفي مطالع القرن العشرين، صارت شعارات الدولة القومية هي السائدة حتى في الصراعات بين الدول الأوروبية المتنافسة على المستعمرات في آسيا وإفريقيا وحتى في البلقان.. لكأنما صارت المستعمرات أيضاً مِلْكاً وحقاً للأمة البريطانية أو الشعب الفرنسي أو حتى إيطاليا موسوليني الذي رأى حقاً للشعب الإيطالي العظيم في استعمار إثيوبيا!
والمعروف أنّ ألمانيا أثارت حربين عالميتين من أجل إقرار حقّها في «المجال الحيوي» في أوروبا وما وراءها، في حين ما كانت بريطانيا تتصور أن ينافسها أحدٌ على استعمار الهند، وكانت مقولة رئيس وزرائها غلادستون في ثمانينيات القرن التاسع عشر أن هيبة الإمبراطورية وسلطةَ شعبها تتهددان إذا جرى التعرض لاحتلالها الهندَ وحتى مصر!
تلقت ثقافة الدولة القومية ضربات قاسية في الحرب العالمية الثانية التي أثارها زعيم ألمانيا أدولف هتلر بدعاوى قومية. بيد أنّ ذلك لم يظهر بوضوح في ميثاق الأمم المتحدة الذي أقام النظام الدولي الجديد على الوحدات القومية القائمة. صحيح أنّ الألمان سَعَوا بعد الحرب لتناسي القومية، كما أنّ البريطانيين والفرنسيين بدؤوا الخروجَ من المستعمرات، لكنّ زمانَ عظمة فرنسا والإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس لم يُبارح الأذهان.
وأعطت حركات التحرير في آسيا وأفريقيا دَفعةً قويةً للثقافة القومية؛ لأنها كانت تسعى لإقامة كيانات على صُوَر كيانات تاريخية أو متوهَّمة. لماذا هذا الحديث الطويل عن تطورات ثقافة الدولة القومية؟ يرجع ذلك إلى عودة استخدام هذه الأيديولوجيا من جانب سائر المتصارعين على المجالات والموارد الاستراتيجية، من روسيا، مروراً بالصين، وصولاً إلى ألمانيا التي يقول مستشارها شولتز، إنّ الحربَ الروسية في أوكرانيا ستدعم قوميةَ الشعب الأوكراني وقومية وقوة ألمانيا وأوروبا.
أما الولايات المتحدة، والتي لا تبدو أرضها ولا دولتها مهدَّدتين، فتدخل النزاعَ إلى جانب أوكرانيا وتايوان وأوروبا بأربع حُجج: القانون الدولي، وميثاق الأُمم المتحدة، وحقوق الإنسان!
والحجة الرابعة: التفوق الأخلاقي على «المعتدين الديكتاتوريين»! إنها صراعاتٌ على المجالات الاستراتيجية والموارد. بيد أنّ الرمزيات القومية والوطنية ما تزال تلعب دوراً مؤثراً في الجمع والتحشيد. وإن لم نصدّق فهذه هي هيبة الدولة التي تجمع الحشود وتُسقط كلّ الاعتبارات والقيود.
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية