خطأ الاحتياطي الاتحادي
قبل عامين، كان محافظو البنوك المركزية يَبدون كما لو أنهم قادرون على كل شيء. فعلى سبيل الاستجابة لصدمة فيروس كورونا، ضخّ بنك الاحتياطي الاتحادي (المركزي الأميركي) حوافزَ أكبرَ بكثير مما ضخ عقب الأزمة المالية لعام 2008. ومكّن التدخلُ الكونجرسَ من متابعة إجراءات التحفيز الخاصة به دون القلق بشأن الدين القومي. فقد كان الاحتياطي الاتحادي يشتري السندات الحكومية بالسرعة ذاتها التي تصدرها بها وزارة الخزانة.
وحل عصر المال السحري، لكن السحر تلاشى الآن. وارتفع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عام 1980. ونتيجةً لهذا، يتعين على الاحتياطي زيادة أسعار الفائدة مراراً وتكراراً هذا العام، مما قد يتسبب في ركود. ورغم أن الاحتياطي الاتحادي لديه خبراء في الاقتصاد أكبر ثماني مرات تقريباً مما لدى جامعة هارفارد، فإنه أخطأ في تقديراته. ويتعين علينا معرفة الموضع الدقيق للخطأ حتى نتعلم الدرسَ الصحيحَ للمستقبل. الخطأُ لم يكن في التحفيز الأولي. فقد عطّلت الجائحةُ جانباً كبيراً من الاقتصاد. وبحلول الربع الثاني من عام 2020، تقلّص الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 10% مقارنةً مع فترة ما قبل الجائحة. ولولا تدخل الاحتياطي الاتحادي، لكابدت الولايات المتحدة ركوداً. وبدلاً من هذا، توسّع الاقتصاد.
وبحلول الربع الثاني من عام 2021، أصبح الإنتاج المحلي الإجمالي الحقيقي أعلى مما كان عليه قبل الجائحة، في تعاف أسرع بكثير مما حدث بعد أزمة عام 2008. ومن خلال التحفيز الآني وبمستوى غير مسبوق، أدى الاحتياطي الاتحادي خدمةً عامة استثنائية. وعلاوة على هذا، لم يشكل التحفيز الأولي أي مشكلة بالنسبة للأسعار. وفي عام 2020، سجل الاحتياطي الاتحادي مقياسَ التضخم المفضل الذي يستثني الأسعارَ المتقلبة للمواد الغذائية والطاقة، وهو 1.4%، أي أقل من النسبة المستهدفة والبالغة نحو 2%. وارتفع مؤشر أسعار المستهلِك الشائع الاستخدام أقل من ذلك. وبحلول نهاية عام 2020، كان بوسع المرء أن يبدأ في سرد قصة عن ظهور التضخم.
فالمستهلكون كانوا يتطلعون لإنفاق شيكات التحفيز وتوقف العولمة يخفف كابح الأسعار. لكن التضخم لم يصبح السيناريو المحتمل. ما حدث بعد ذلك كان خطأ يمكن غفرانه، ثم حدث خطأ آخر فادح حقاً. بدأ الخطأ الذي يمكن غفرانه صيف عام 2021. حينذاك، تصاعدت الحوافز التي أقرتها إدارة ترامب بعد حزمة أكبر بكثير في ظل إدارة بايدن.
وفي الربع الثاني، بلغ التضخم الأساسي 6.1%، وهو أعلى بكثير من هدف الاحتياطي الاتحادي. لكن الاحتياطي الاتحادي وصف هذا الارتفاع بأنه «مؤقت»، مجادِلاً بأن النقص في أشباه الموصلات تسبب في ارتفاع مؤقت لأسعار السيارات. كما أن خوف العمال من «كوفيد-19» تسبَّب في تأخّر عودتهم إلى العمل وأدى إلى اختناقات مؤقتة. لكن، بإلقاء نظرة إلى الوراء، نجد أن هذا كان مفرطاً في التفاؤل. ومع ذلك فهو خطأ يمكن غفرانه، لأن الاحتياطي الاتحادي واجه أسئلة غير مسبوقة مثل: كم عدد المواطنين الأميركيين الذين سيعودون إلى العمل؟ وما مدى سرعة إنفاق التحفيز الحكومي؟
واتفق كثير من المحللين المحترمين مع الاحتياطي الاتحادي في توقعه بأن التضخم سيكون مؤقتاً. لكن الخطأ لم يقتصر على التنبؤ، بل كان قصوراً في الشجاعة واستسلاماً للقصور الذاتي. فقد أقر الاحتياطي الاتحادي بالتضخم، لكن بسبب قلقه من إزعاج الأسواق المالية وتردده في التعامل مع الآثار الكاملة للخطأ، امتنع عن الارتقاء إلى مستوى التحدي. وفي ختام اجتماع وضع السياسات لمجلس الاحتياطي الاتحادي في يناير الماضي، وصف رئيسُ المجلس، جيروم باول، التضخمَ بأنه «مرتفع». لكنه لم يرفع سعر الفائدة.
وفي الاجتماع التالي، في منتصف مارس، اعترف باول بأن التضخم كان «أعلى بكثير» من هدف الاحتياطي الاتحادي. بيد أنه لم يرفع سعر الفائدة إلا ربع نقطة مئوية فقط. وعلاوةً على ذلك، تبنَّى باول هذا التدرج، على الرغم من أن حرب أوكرانيا والعقوبات المرتبطة بها كانت تدفع أسعار السلع إلى الارتفاع. والخطأ السابق الذي يمكن العفو عنه صاحبته ضربة كبيرة من سوء الحظ. لكن بدلاً من الإسراع لحل المشكلة، لعب الاحتياطي الاتحادي دور السلحفاة. وبينما كان الاحتياطي الاتحادي يسير رويداً، كان التضخم يعدو. وباستبعاد آثار التغيرات الموسمية، ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 0.6% في يناير مقارنةً بالشهر السابق.
وفي مارس، تضاعفَ معدل التضخم ليبلغ 1.2%. وقبل ثلاثة عقود، كان الاحتياطي الاتحادي أقل خضوعاً للجان وأكثر خضوعاً لسيطرة رئيس مهيمن، وكان على استعداد لرفع أسعار الفائدة بحذر أقلّ وجرأة أكبر. ففي دورة التشديد المالي عام 1994، رفع الاحتياطي الاتحادي سعر الفائدة ثلاثةَ أرباع نقطة مئوية في اجتماع واحد. وصرخ وول ستريت محذِّراً، لكن النشاط الاقتصادي خرج سالماً. وانخفض التضخم، ولم يحدث ركود. ويجب على الاحتياطي الاتحادي التفكير في هذا الأمر اليوم. وللحفاظ على مصداقيته كمحارب ضد التضخم، وللحفاظ على قدرته على الاستجابة بسرعة لصدمات النمو، على الاحتياطي الاتحادي الاستجابة بسرعة تعادل سرعة صعود الأسعار. وأحياناً يكون من المقبول إزعاج وول ستريت. وذات يوم، كان الاحتياطي الاتحادي يعرف هذا.
سيباستيان مالابي*
*باحث بارز في الاقتصاد الدولي بـ«مجلس العلاقات الخارجية»- نيويورك.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»