سألني صديق من منطقة الخليج العربي له ولع كبير بالفلسفة: «ماذا بقي من الفكر العربي بعد رحيل آخر أساطينه الكبار حسن حنفي وانسحاب عبد الله العروي من الساحة الثقافية؟».
الصديق المذكور له اطلاع جيد على كتابات المفكرين العرب المعاصرين، وقد لاحظ أن فترة الثمانينيات والتسعينيات كانت استثنائية من حيث الإنتاج الفكري العربي. في هذه الفترة ظهرت الأعمال الأساسية لمحمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي وعبد الله العروي ونصر حامد أبو زيد وهشام جعيط.. إلخ.
ولقد نبهت الصديق الخليجي أن المفكرين المذكورين ليسوا، باستثناء الجابري وحنفي، من المتخصصين في الفلسفة، حتى لو كان اطلاعهم عليها واسعاً واستخدامهم لأدواتها جلياً في أعمالهم المنشورة.
انطبعت فترة المد الفكري العربي بسمات ثلاث أساسية هي: تراجع الأيديولوجيات القومية واليسارية التي هيمنت على الجيل السابق في عصر الثورات العسكرية التي عرفتها العديد من دول المنطقة، وبروز الفلسفات التأويلية والإبستمولوجية التي غيّرت نوعياً المنظور المنهجي لقراءة التراث الوسيط، واتساع سوق النشر الثقافي وتمددها إلى مساحات كانت غائبة جزئياً عنها مثل منطقتي الخليج والمغرب العربي.
وهكذا عندما ظهر كتابا العروي «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» وجعيط «الشخصية العربية» في نهاية الستينيات (وهما في الأصل مؤلَّفين بالفرنسية)، شكَّلا نقطةَ تحول كبرى في الفكر العربي الحديث بنغمتهما النقدية وعمقهما الفلسفي.
بيد أن الثمانينيات شهدت بالفعل صدور الأعمال المؤسسة لما اعتبره البعض «النهضة العربية الثانية»، مثل سلسلة الجابري في «نقد العقل العربي» وكتاب أركون في «نقد العقل الإسلامي» وسلسلة مفاهيم العروي وكتابات أبي زيد التأويلية والمجلدات الأولى من مشروع حنفي في إعادة بناء العلوم التراثية.
وبالمقارنة مع جهود مفكري الإصلاح في بداية القرن العشرين وقادة الأيديولوجيات الثورية في النصف الثاني من القرن، اتجهت وجوه الفكر العربي المعاصر إلى مهمتين أساسيتين:
- بناء نظرية تأويلية للتقليد الثقافي العربي الإسلامي الوسيط، تأرجحت بين التحديد الإبستمولوجي، والهرمنوطيقا اللغوية واللسانية، والنقد التاريخي الاجتماعي.
- إعادة مضامين المشروع التحديثي والنهضوي العربي على أساس القيم الليبرالية والعقلانية، وفق مقتضيات التفاعل الإيجابي مع العالم.
ومهما قيل عن تعثر وكبوة المشروع التحديثي العربي المعاصر، يتعين الإقرار بأن جهود المفكرين العرب في العصر الحاضر كانت مؤثرة وفاعلة في الوسط الثقافي العربي في عمومه. دخلت إبستمولوجيات الانفصال والقطيعة إلى الدوائر الأكاديمية والجامعية، ونفذت النظريات التأويلية في نسخها الفلسفية واللسانية والانتروبولوجية إلى الخطاب الفكري العام، وتسرّبت مناهج وطرق تاريخ الأفكار إلى الأرضية الثقافية الشاملة.
كان المرحوم خير الدين حسيب مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت يقول إن أعمال الجابري التي ينشرها المركز قد تجاوزت في انتشارها روايات نجيب محفوظ واسعة الرواج في عموم العالم العربي، حسب ما تبين مؤشرات معارض الكتب ودور النشر. كما أن إنتاج المفكرين المذكورين قد اخترق كل التخصصات والحقول الثقافية والأكاديمية، في شتى العلوم الشرعية والإنسانية، بما كان له أعمق الأثر في تشكيل العقل العربي الإسلامي المعاصر.
وبالرجوع إلى سؤال الصديق الخليجي حول أسباب تراجع وانسحاب الفكر العربي المعاصر وغياب وجوه بارزة ومؤثرة في الثقافة العربية الراهنة، يمكن القول إن ثلاثة عوامل أساسية تفسر حالة الفراغ الحالية:
أولاً: الأزمة العميقة التي ضربت الحقل الجامعي والأكاديمي العربي في السنوات الأخيرة، لأسباب بديهية لها علاقة بالأوضاع المتردية في جل البلدان العربية التي مرت بمصاعب انتقال سياسي حادة وحالات عنف وصراع أهلي متفاقم انعكست بالسلب على المجالين الثقافي والتربوي.
ثانياً: انحسار مفهوم «المثقف العضوي» أو «المثقف الشمولي» أي المفكر ذي الطموح التأسيسي والمنظور البنيوي العام الهادف إلى صناعة الوعي الجماعي وتقديم قراءة نسقية متكاملة للتراث العربي الإسلامي وللوضع التاريخي الراهن.
ثالثاً: طغيان النزعات التفكيكية والمقاربات ما بعد الحداثية في الكتابات الثقافية والإبداعية العربية، بما انعكس في نقد مرجعيات الهوية والحداثة والتنوير التي أطّرت مشاريع النهوض العربي المعاصرة.
قبل عشر سنوات رحل محمد أركون، وكنت التقيت به قبل وفاته بشهور في ندوة فكرية بالمغرب، وقد قال لي أوانها إنه بدأ أعماله البحثية في فرنسا منذ الستينيات ونشر كتبَه العلمية في أكبر دور النشر الفرنسية وترجمت إلى أهم اللغات العالمية، لكن تأثيره الحقيقي كان في العالم العربي بعد ترجمة أعماله التي تأخرت إلى نهاية الثمانينيات. لقد خلص أركون إلى أن صورة المفكر التي انتهت في الغرب ما تزال حاضرةً بقوة في الثقافة العربية. بيد أن الأمر تغيّر نوعياً في الأعوام الماضية.
أكاديمي موريتاني